5/15/2022 11:40:27 AM
بقلم : مهدي عبدالمتعال
المراقب للممارسة السياسية لنظام المؤتمر الوطني منذ إنقلاب 89 يلاحظ سوء الإدارة التي مرت به البلاد، شهد السودان في ظل الإنقاذ اسوأ مرحلة في تاريخه الحديث، تفاقمت الأوضاع الإقتصادية والأمنية بسبب الفساد الواسع والحروبات في العديد من مناطق البلاد ودمار للمؤسسات المدنية ...الخ حتى وصل الحال الى إنفصال جزءاً عزيزاً من البلاد. هذا السوء والإضطرابات وصلت الى ذروتها وإكملت الشروط الموضوعية لعملية التغيير، الامر الذي وحد قوى الثورة لتغيير النظام الهالك.
وبعد سقوط رأس النظام تسلمت اللجنة الأمنية لعمر البشير زمام السلطة، ليس من باب الإستجابة لمطالب الثورة، ولكن لكسب الوقت والإلتفاف حول مطالب الجماهير والقضاء عليها، وكان ذلك واضحاً بعد فض الإعتصام بالطريقة الوحشية التي شاهدها السودانيين. فضلاً عن الاعتقالات الصورية التي تمت لقيادة المؤتمر الوطني كانت خدعة لإسكات الشارع الباحث عن تحقيق العدالة وإنهاء الإفلات عن العقاب. وعقب التوقيع على الوثيقة الدستورية بين اللجنة الامنية وقوى الحرية والتغيير إتضح الامر لعناصر النظام الإخواني خطورة تغلغل قوى الحرية في مقاليد الحكم، وبداوا تنفيذ مخططات جهاز الامن الذي صرح به علي عثمان قبل إسقاط النظام بشهور، حيث قال في لقاء تلفزيوني شهير أجرته معه قناة طيبة " إذا كانت الثورة سلمية لدينا ثورة سلمية مضادة، وإذا كانت مسلحة أيضاً لدينا ثورة مسلحة مضادة" وايضاً صرح ابوبكر عبدالرازق القيادي بالمؤتمر الشعبي بانهم لن يتركوا لا المدنيين او العسكر ان يعملوا لاي تحول ديمقراطي. وبعد ان احرز رئيس الوزراء تقدماً ملحوظاً في ملف العلاقات الخارجية أدركت اللجنة الامنية خطورة التقدم المحرز على مصالحها الإقتصادية وبدأت الصراعات الخفية تظهر للعلن، حيث عملت قوى الثورة المضادة على إشعال الحروب القبلية والإضطرابات الامنية ومحاولات إنقلابية صورية للضغط على الحكومة وإستنزاف جهودها، الى ان وصل الخلاف بين قوى الثورة المضادة والحرية والتغيير ذروته وحدث الإنقلاب 25 إكتوبر الذي قطع الطريقة امام محاسبة العناصر الإخوانية. وبالتالي ان الصراعات الدائرة حالياً هي جزءً من الصراع السياسي.
• شهدت ولاية غرب دارفور منذ احداث كريندق الأولى في نهاية العام 2019 عنفاً متصاعداً في العديد من المناطق بما فيها مدينة الجنينة وبعض من محلياتها ونتج عن ذلك المئات من القتلى والجرحي وكم هائل من النازحين الذين يبحثون عن الامن والامان في المدن، كما سجلت هذه النزاعات حالات لجوء الى الدولة المجاورة تشاد. إذ فشلت الجهود الحكومية والمجتمعيةفضلاً عن المنظمات الإنسانية العاملة تبني خطط إستراتيجية لعملية بناء السلام والحلول المستدامة. وبالتالي يبقى التساؤل الجوهري الى متى يستمر هذا الوضع الكارثي في الولاية؟ وماهي الحلول الممكنة والدور الذي يمكن ان تلعبه المنظمات الإنسانية والحكومة معاً في تقليل حدة الصراع وضمان حماية المدنيين في ظل وضع سياسي وإقتصادي هش ينذر بالخطر والفناء.
• لكي تتبنى المنظمات إستراتيجيات فعالة وذات جدوى تساهمفي إستقرار الاوضاع، لابد لها ان تدرس وتستوعب الواقع بشكل جيد وبحساسية عالية حتى تساهم في إنتشال الولاية من دائرة العنف والعنف المضاد الذي كلف وسوف يكلف العالم المزيد من الاموال في الإستجابة لحالات الطوارىء.
احاول هنا ان اتتبع مسار الاحداث وتطوراتها لمعرفة العوامل المتداخلة فيها منذ الشرارة الاولى في كرينديق مروراً بجبل مون وكرينيك، اَملاً ان يُساهم هذا التحليل في المعرفة العميقة لاحداث العنف والتهجير القسري الذي تشهده المنطقة.
• أزعم ان ظاهرة العنف المتكرر والمتصاعد في غرب دارفور لا يمكن فهمه إلا من خلال الصراع السياسي والتغيير الذي حدث مؤخراً بعد الثورة التي أطاح بنظام البشير- من جانب اخرصراع الهيمنة على موارد الشعوب في الهامش الأفريقيوخصوصاً السودان. وبالتالي ان هذا العنف المتصاعد في غرب دارفور يمكن ان نقسمه الى مرحلتين وفقاً للاحداث وصراع النفوذ– المرحلة الأولى هي صراع قوى الثورة ونظام المؤتمر والوطني بعد أن فقدت الاخيرة السلطة والإمتيازات الإقتصادية التي كانت تتمتع بها في فترة الثلاثين عام، وهذا يشمل من أجل إستعادة السلطة احداث كريندق الأولى- الثانية ، الهجوم على ابوذر –الجبل، وبقية المناطق مثل مستري، كوقر، قيلو وجيكجكي...الخكل هذه المناطق شهدت إعتداءات وهجمات عنيفة ومتكررة نتج عنها دمار كبير ونزوح ولجوء الالاف كما خلفت قتلى وجرحىونهب للممتلكات. ان معظم هذه الاحداث كان الدافع وراءها هي إعتداءات ممنهجة تقوم بها مجموعات الكولمبية التي تعمل لصالح جهاز امن المؤتمر الوطني بقيادة الرائد عثمان ضد افراد ينتسبون للقبائل العربية حسب تصريح السلطان سعد عبدالرحمن بحر الدين الذي اكد فيه ان جهاز الامن هو من اسس مجموعة الكولمبية حتى تخلق النعرات القبلية ويتهموا بها الوالي السابق محمد عبدالله الدومة بتسليح المساليت وغيرها من التهم الجزافية. وهنا لابد ان اتذكر المقابلة التي أجريتها مع مجموعة من شيوخ معسكر ابوذر الذين كانوا يشتكون من المضايقات التي يتعرضون لها من قبل هذه المجموعات – حيث ذكر الشيوخ ان الكولمبيين يتلقون الاسلحة والمخدرات من قبل ضابط شرطة يرتدون زي الشرطة وشوهدوا في عدة مرات داخل المعسكر علىمتن سيارة (كِليِك). وايضاً الحادثة الشهيرة التي اغتيل فيه محمد حماد دودة ( ابو سم) وعند القبض على المتهم والتحقيق معه أقربأنه تم تأجيره من قبل شخص مجهول ولكن اتضح لاحقاً ان هذا الشخص هو زعيم عصابة الكولمبية. وكذلك احداث كريندق الاولىوابوذر والجبل كلها نتاج لإغتيالات غامضة لم تتمكن السلطات من معرفة مرتكبيها او بالاحرى لم تُبذل الجهود المطلوبة للكشف عن المعتديين وهذا يؤكد تقاعسها وتماطلها في إنفاذ حكم القانون إن لم تكن شريكة، بالإضافة الى إنسحاب القوات النظامية من كل المناطق التي تم الإعتداء عليها.ان إنسحاب القوات النظامية من المناطق التي تعرضت للاعتداءات لم يكن بمحض الصدفة انما كانت تتلقى تعليماتها وتوجيهات من اللجنة الامنية التي أقر الوالي الدومة عدم إنصياعها لتوجيهاته وظلت تطلب منه دفع مبالغ مالية طائلة كحوافز للجنود تقدر بعشر مليار شهرياً مقابل القيام بمهامهم.
• الغرض من الإعتداءات المتكررة من قبل مجموعات الكولمبية على افراد من القبائل العربية ليس الدفاع عن المساليت كما يظهر للناس او كما يُروج له، إنما لإثارة الفتنة وإشعار الحرب بين المكونين حتى يتم إبعاد القوى السياسية الحاكمة والداعمة للتحول الديمقراطي وعلى وجه التحديد إبعاد الوالي انذاك محمد عبدالله الدومة وقوى الحرية والتغيير من السلطة اللذان كانا يُشكلان تهديداً للمؤتمر الوطني بذريعة انهم السبب وراء الاضطرابات الامنية. الحروب والإعتصامات التي نظمها عضوية المؤتمر الوطني عبر القبائل العربية شكلت ضغط على الحكومة المركزية واجبرها على الخضوع لمطالب المؤتمر الوطني الساعيةلإقالة الوالي الدومة والمطالبة بتعيين والي عسكري من النظام السابق حتى يفتح لهم باب الفساد والإستبداد وإعادة النفوذ التي فقدوها وإخماد جذوة الثورة ولائياً عبر وكلاءهم من الإدارات الاهلية وهذا المطلب طُرح في إجتماع البرهان مع الإدارات الاهلية للقبائل العربية في القيادة العامة للقوات المسلحة ونجحوا في تغيير عبدالله الدومة، وإستبداله بقائد التحالف السوداني الموقع على سلام جوبا والذي أتى به قائد الدعم السريع لتحقيق أجندته الإماراتية الساعية لسرقة الذهب من منطقة جبل مون وهبيلا كجنكسي.
• ما يؤكد ايضاً ضلوع عناصر امن البشير والمؤتمر الوطني في الاحداث القبلية في معسكر كريندق، وبشهادة النازحين انفسهم عن ان مدير جامعة الجنينة الحالي الطيب علي احمد الذي تم تعيينه مجدداً ومعتمد الجنينة السابق محمد عبدالرحمن (تنجيك) كانا يوجهان النازحين بالدخول الى المؤسسات الحكومية لتعطيل عمل الحكومة التي كان يتزعمها الدومة. والاَن بعد إنقلاب 25 إكتوبر وصعود الإسلامويون مجدداً الى السلطة بدأ المدعو الطيب علي احمد يعمل ليلاً نهاراً على إخراج النازحين من المؤسسات الحكومية لإفساح المجال للعناصر الإخوانية لممارسة الفساد، دون أن يفكروا في ابسط المقومات المرتبطة بالحماية و الحقوق الأساسية التي تضمن العودة الاَمنة والكريمة للنازحين.
• إما المرحلة الثانية: من الصراع يتمثل في صراع القوى الداعمة للإنقلاب فيما يبينهم والمتعلق بالموارد والسلطة: وهذا يشمل الاحداث التي وقعت في جبل مون وصليعة محلية كرينيك.
• ان الصراع الذي دار في منطقة صلعية وجبل مون لم يكن بين العرب والمسيرة جبل كما يحاول الإعلام الرسمي الترويج لهبغرض تضليل الرأي العام العالمي والمحلي، إنما كان صراعاً بينقوات الدعم السريع الحليف الرسمي للإمارات مُستغِلين القبائل العربية كدروع بشرية لمواجهة سكان المنطقة الذين رفضوا سرقة مواردهم وإحتلال أرضيهم الزراعية من قبل الدعم السريع – من الواضح ان الدعم السريع لا يمكن ان يخوض صراع مباشر مع سكان المنطقة كي لا يورط نفسه في إتهامات حول إنتهاكات جديدة ومجازر زيادة على إتهامات مجزرة فض الإعتصام،وبالتالي رأت ان تُستغِل بعض القبائل العربية وتسندهم من الخلف للهجوم على المنطقة، اذا نجحوا في ذلك ستتمركز هذه القوات في جبل مون لحماية شركات التعدين حتى تنجز مهامها في تنقيب الذهب والهدف الثاني التوغل نحو تشاد لاحقاً لتغيير النظام، ولكن بسبب تضاريس المنطقة وموقعها الجغرافي يصعب على المليشيات الوصول الى المنطقة وإلحاق الهزيمة بالسكان. المتابع للأوضاع يُلاحظ الصور والفيديوهات التي ظهرت والتي توضح مشاركة الدعم السريع في معارك جبال مون.
تعمل قوى الثورة المضادة جميعها على إصباغ الصراع السياسي وصراع الموارد طابعاً قبلياً حتى تضلل الرأي العام –وهذا يقلل من الضغوطات الدولية والمحلية على الحكومة تجاهها وعدم مسائلتها قانونياً بشكل مباشر، كما يظهرها في موقع الحياد أي حياد الدولة بين مكوناتها، لا يعفيها من إلتزامها تجاه حماية المدنيين وصون حقوق الإنسان.
• من خلال اللقاءات مع اعيان المنطقة اكدوا ان هناك شركة ذهبت الى جبل مون وأبدت رغبتها في تنقيب الذهب هناك بعد ان وقعتالشركة اتفاق مع والي غرب دارفور الجنرال خميس يسمح لهم بالتنقيب في المنطقة، إلا ان السكان رفضوا ذلك في إجتماعهم مع اصحاب الشركة بعد ان طالبوا ببناء مستشفيات، مدارس، توصيل كهرباء ومياه لكل المحلية، إضافةً الى تشييد طرق مسفلتة من طينة التشادية الى عاصمة الولاية عبر محلية جبل مون. هذه المطالب كانت قاسية بعض الشئ على الشركة التي وعدتهم بتنفيذ هذه المطالب بعد التنقيب، إلا ان اهل المنطقة رفضوا ذلك بشدة. وبعدها بأشهر بدأت الاحداث المتفرقة تندلع الواحدة تلي الاخرى الى ان تراكمت ووصلت زروتها، ومن هناك بدأت الأحداث تأخذ طابعاً قبلياً وتم الترويج لها كذلك.
• لماذا إختارت السلطة الحاكمة وقوى الثورة المضادة منطقة دارفور وشرق السودان– غرب دارفور على وجه الخصوص مكاناً لخوض صراعها السياسي الذي إخذ طابعاً قبلياً؟ – هذا يمكن ان يُقسم الى عاملين، اولاً وجود التناقضات التاريخية بين الرعاة والمزارعين حول الأرض الذي إتخذ شكله القبلي الحالي بين العرب والمساليت وبين مكونات شرق السودان من جه اخرى، هذه التناقضات لازالت قائمة ولم تحل في كل الإتفاقيات التي وقعت بما في ذلك إتفاق سلام جوبا، وبالتالي عمل نظام المؤتمر الوطني على تحريك هذه التناقضات عبر جرائم القتل والإعتداءات المتكررة التي تبدو في بدايتها احداث متفرقةوفردية سرعان ما يتخذ طابع قبلي ويتم التجييش والتعبئة له بشكل سريع ويتحول الى قبل اعتداء ضد احدى المكونات، واحياناً يتم إستئجار عناصر تكاد تكون لا تربطهم صلة بالمكونات المتصارعة، لإشعال الفتن فقط، وهذا يعود الى ضعف الوعي المجتمعي في المنطقة التي تعزي جرائم الافراد الى قبائلهم والدعاية الإسفيرية كذلك تنسب هذه الاحداث لاحدى الاطراف القبلية، مما ساعد هذا التأويل المضلل الى زيادة حِدة الصراع وتجريم القبائل بفعل الفرد.
• ثانياً يعود الى ضعف القوى السياسية والمدنية التي ينبغي عليها مراقبة الاوضاع وإتجاهات وتطور الصراع وكشف المحركين والفاعلين فيها وترسيخ الوعي المجتمعي الذي يدعو للسلام والتعايش السلمي، إلا ان حداثة تجربتها وضعف قدراتها الفكرية حالت دون القيام بواجبها الوطني تجاه هذه الصراعات.
• في الختام إن ما نشهده اليوم من صراعات عنيفة سوى فيالشرق او الغرب ليست إلا جزءً من الصراع السياسي الإجتماعي بين القوى الثورة المضادة التي تحركها أيادي دول الخليج ،مصر والمؤتمر الوطني من جه والذي يصر على العودة للسلطة عبر سفك الدماء وخلق النعرات القبلية والفتن بين الاهالي، والقوى الداعمة للتحول الديمقراطي،و لكن هذه القوى هي متشظية على نفسها وغير موحدة، وهذا يعود الى تباين المصالح بداخلها.
• ويبقى الحل هو المزيد من الضغوطات على الحكومة الحالية لإحداث تغيير سياسي وذلك عبر إنهاء الإنقلاب وإيجاد حلول سياسية تشمل كل المكونات السياسية بحيث يضمن إنتقال سلس واًمن . كما يجب تفعيل مؤسسات سيادة حكم القانون وتوفير الامن في كل انحاء دارفور الامر الذي يشجع النازحين العودة الى مناظقهم الاصلية.