12/7/2022 12:51:07 PM
تحدي إزالة الفساد والاستبداد
د. الشفيع خضر سعيد
قضايا الفترة الانتقالية الراهنة في السودان :
تحدي إزالة تحالف الفساد والاستبداد
جدول المحتويات
1. ملخص ....................... ............................... .3
2. المرتقى الصعب: مهام الانتقال السودان .............. 5
3. تحديات واجهها ويواجهها الانتقال ....................... 6
4. من ا ألزمة التاريخية الى اعادة البناء ................... 7
5. مهام تنتظر ما تبقى من الفترة الانتقالية: قضايا الحوار والمراجعة ............... 9
6. مهام س ياس ية تنتظر الحكومة الانتقالية القادمة ........................................ 13
7. ملامح البرنامج الاقتصادي ............................................................. 14
8. الخاتمة .................................................................... 18
1. ملخص
مثلّت لحظة اطاحة الشعب السودان في ابريل 2019 بقيادات نظام البشير/الانقاذ تتويجاً فعلياً لمقاومة ظلت تتراكم لثلاثة عقود حصد خلالها الموت ارواح الكثيرين في أقبية التعذيب وساحات الحرب الاهلية، وضاقت السجون وبيوت الأشباح بالاف الشرفاء. وقد شرع ذلك ابواب الامل في قيام فترة انتقالية تقودها حكومة انتقالية متوافق عليها، تشُكّّ على أساس الكفاءة والنزاهة، بعيداً عن أي محاصصات سياسية أو حزبية أو جهوية. وكان الامل أن تنفّذ مهاماً جوهرية تنقل البلد الى مربع جديد. وهذه الورقة تؤكد على أن الفترة الانتقالية الراهنة في السودان تقتضي من جميع القوى السياسية )مدنية ومسلحة( وقوى المجتمع المدن التعامل معها باعتبارها فترة مصيرية تخاطب أمل السودانيين في بناء الدولة السودانية الحداثية والمستقرة. ويضمن النجاح في تنفيذ مهام هذه الفترة الحفاظ على وحدة البلد والسير بها نحو مرافئ التقدم والرقي، بينما يعزز الفشل احتمالات الحرب الاهلية وتفتت الوطن.
تعالج الورقة القضايا المعقّدة التي يواجهها الانتقال السودان، وليس أأقلها دحر الانقلاب العسكري، وبناء اجماع معقول يعُين على ما هو متفق عليه، وتيسير حوار وطني يعالج قضايا مصيرية ظلت مؤجلة أو محل ارتجال منذ استقلال السودان. وتقدم الورقة في ثان جزء منها، بعد هذه المقدمة، جرداً موجزاً للمهام المتوافق عليها للحكومة الانتقالية. ثم تنتقل في جزئها الثالث الى فحص ال تحديات التي واجهها وما يزال يواجهها الانتقال، واولها أن انتصار الثورة نفسها ظل جزئي اً وهشاً، اذ توقفّ عند الاطاحة برأس سلطة نظام الانقاذ وبجزء من غطائها السياسي. وثان هذه التحديات هو استمرار غياب الرؤية الموحدة وسط قيادات الثورة تجاه الواقع السياسي الجديد الذي أفرزته الثورة. أما التحدي الثالث فهو الجيوش والمليشيات المسلحة العديدة، بما فيها تلك المتواجدة خارج البلد، لكنها مستعدة لمناصرة هذا الطرف أو ذاك من الأطراف الفاعلة في الساحة السياسية. وتختم الورقة هذا الجزء بالتحدي الرابع وهو حالة التشظي والانقسامات التي ضربت قوى الثورة منذ البداية ثم تفاقمت وطغت عليها اتهامات التخوين المتبادلة.
ينطلق الجزء الرابع من الورقة من الاقرار بان ما يعانيه السودان هو أزمة تاريخية تمتد جذورها الى فجر الاستقلال. وللخروج من الازمة والولوج الى مرحلة اعادة البناء تقترح نهجا ثلاثياً يقوم على وقف الانزلاق نحو الكارثة؛ والعمل على اصلاح الحال؛ والانطلاق لتحقيق المشروع التنموي النهضوي للأمة السودانية. وتدعو الورقة الى الحوار والمراجعة مشددةً على أن الحوار والتفاوض وتجنب العنف سيظل دائماً هو الخيار المفضل لحل ا لازمات. لكنها تنبه الى ضرورة التفريق بين الحوار الذي يتصدى لجوهر الأزمة والحوار الذي يفضي الى حلول تصالحية سطحية، تكتفي بالعفو المتبادل واقتسام كراسي السلطة. وتشير الورقة في الجزء الخامس الى أن محصلة أي حوار أو تفاوض تخضع لقانون المساومة وتوازن القوى. ولهذا السبب تحديداً ف ان قصر الحوار على النخب السياسية وحدها داخل الغرف المغلقة، سيجعل ميزان القوى يميل لصالح المجموعة المتنفّذة. والأقصي ما سينتهيي اليه سيكون هو اقتسام كراسي السلطة، بينما سيتم تجاهل مطالب الشارع. وبافتراض أن الحراك السياسي الذي يجري الآن في البلد سيفضي الى واقع سياسي جديد تتشكّل على ضوئه حكومة مدنية تستكمل ما تبقى من الفترة الانتقالية، تطرح الورقة اثني عشرة اعتباراً ترى الأهمية أن تنتبه لها الحكومة المدنية المقبلة والقوى الحاضنة لها.
يعرض الجزء السادس المهام السياسية التي يجب أن تتصدى لها الحكومة القادمة. وتشمل استكمال استحقاقات التحول الديمقراطي؛ استكمال ملف السلام )مع الحركة الشعبية لتحرير السودان/شمال بقيادة عبد العزيز الحلو، وحركة تحرير السودان بقيادة عبد الواحد محمد نور(؛ محاسبة مرتكبي الجرائم؛ انتزاع مؤسسات الخدمة المدنية والعسكرية والأمنية والشرطية من براثن الدولة العميقة؛ تشكيل المفوضيات القومية المستقلة؛ اجراء الانتخابات المحلية؛ اصلاح التعليم؛ اصلاح السياسة الخارجية؛ اجراء التعداد السكان؛ ابتدار مصالحة وطنية تقوم على رفع المظالم ودفع الضرر والعدالة الانتقالية؛ مراجعة تجربة الحكم الاتحادي؛ عقد المؤتمر الدستوري القومي؛ التوافق على مفوضية الانتخابات وقانون للانتخابات. يطرح الجزء السابع، وقبل الاخير، ملامح عامة للبرنامج الاقتصادي فتقدم الورقة مجموعة من المبادئ الرئيسة للبرنامج الا قتصادي منطلقةً من أن أي تدابير اقتصادية وفنية لن تستطيع، بمعزل عن السياسة، أن تحقق أي نجاح. وتؤكد عدة نقاط مثل ضرورة امتلاك رؤية تنموية تستند الى موارد الدولة و امكاناتها الاقتصادية وتضع حاجات المواطنين الأساسية كاولوية؛ للاصلاح المؤسسي للوزارات والمؤسسات الحكومية المعنية بادارة الاقتصاد؛ تمسّك الدولة بدورها في التخطيط التأشيري و اعادة توزيع الموارد؛ اولوية السياسات الداخلية في حل الأزمة في حين يظل العون الخارجي عاملاً مساعداً لا أكثر؛ أن تكون الحكومة الانتقالية مدنية بالكامل؛ أن تتمسك بالصلاحيات السياسية الديمقراطية؛ وقف الانهيار الاقتصادي ووضع برنامج اسعافي وتنموي؛ التعجيل بانطلاق مفاوضات السلام لوقف الحرب الاهلية والتوافق على مشروع سياسي اجتماعي تنموي قومي.
وأخيراً، تشير الورقة، في خاتمة موجزة، الى أن من الضروري أن تتربعّ كيفية دحر الحباط واستثارة الحماس على رأس أولويات، لان حماس الناس، المنظّم والواعي، قادر على قلب الموازين في اللحظات التاريخية الحاسمة.
2. المرتقى الصعب: مهام الانتقال السودا ن
أطاح الشعب السودان في أأبريل 2019 بقيادات نظام البشير/الانقاذ، بعد أربعة أشهر من الحراك الشعبي المتصاعد في شوارع مدن وقرى السودان، وبعد الاعتصام الشهير أأمام مقر قيادة الجيش السودان في الخرطوم واعتصامات أخرى أصغر
كان في مقدمة المهام الجوهرية للحكومة الانتقالية المتوافق عليها:
1- وضع قضية وقف الحرب الاهلية وتحقيق السلام الشّامل والعادل في أول سلم الألولويات.
2- تصفية دولة تحالف الفساد والاستبداد، بمؤسساتها وقوانينها، و ابعاد كل قياداتها من مواقع المسؤولية، وفق القانون، وعبر أ ليات تتكامل في مهامها وأهدافها، من بينها لجنة ازالة تمكين نظام الانقاذ.
3- البدء في اصلاح أجهزة الدولة المدنية والعسكرية بما يحقق قوميتها، واستعادتها من براثن حزب المؤتمر الوطني ، وكفالة عدالة توزيع الفرص دون ا لاخلال بمبدأ الأهلية والكفاءة.
4- اصلاح و اعادة بناء المنظومة العدلية بما يضمن استقلال القضاء وسيادة حكم القانون.
5- الغاء القوانين المقيدة للحريات، وسن تشريعات تساعد على تسريع وتيرة التحول الديمقراطي، مثل قانون النقابات وغيره.
6-محاسبة كل من ارتكب جرماً في حق الوطن والمواطن من أفراد النظام البا ئد، وكذلك محاسبة المتورطين في جريمة مجزرة فض الاعتصام في الثالث من يونيو 2019.
7- التعامل مع قضية المفصولين س ياس ياً وللصالح العام من الخدمة المدنية والعسكرية، كأولوية قصوى.
8- تنفيذ برنامج اقتصادي اسعافي لرفع المعاناة عن كاهل المواطن، الأولوية فيه توفير الغذاء وتركيز أسعاره؛ وتوفير خدمات الصحة والتعليم والسكن؛ والضمان الاجتماعي؛ و اصحاح البيئة؛ ووضع لبنات مشروع اقتصادي تنموي لانقاذ البلاد من الانهيار الاقتصادي؛ مع التركيز على برامج التمييز الايجابي لصالح المناطق المهمشة؛ و اعطاء أسبقية لمناطق التوتر الاثني والقومي والاجتماعي .
9- انتهاج سياسة خارجية متوازنة على أساس الاستقلالية والمصالح المشتركة وبعيداً عن المحاور، واستعادة العلاقات مع مؤسسات العون الدولية.
10- تكوين المفوضيات القومية المستقلة، وفي مقدمتها مفوضية المؤتمر الدستوري وصناعة الدستور؛ ومفوضية السلام؛ ومفوضية محاربة الفساد؛ ومفوضية العدالة الانتقالية؛ ومفوضية الانتخابات... الخ.
11- ادارة حوار واسع وعميق بين كل مكونات الطيف السياسي، يؤسس دعائم حكم ملائم يحقق اقتساماً وتوزيعاً عادلًا للسلطة والموارد بين مختلف المكونات القومية والجهوية في السودان، في ظل نظام ديمقراطي تعددي ،يفضي الى التوافق حول ثوابت الدستور الدائم.
حجماً أمام مقرات أخرى للجيش في ولايات السودان المختلفة. مثلّت تلك اللحظة تتويجاً فعلياً لمقاومة ظلت تتراكم لثلاثة عقود حصد خلالها الموت الكثيرين في أقبية التعذيب وساحات الحرب الاهلية، وضاقت السجون وبيوت الأشباح بالاف الشرفاء. وفي تلك الفترة شهد السودان، أول مرة في تاريخه، الخروج الكبير الى المنافي بحثاً عن الامن والامان، وانقسمت البلد الى شطرين في 2011.
شرعت الاطاحة بقيادات نظام الانقاذ أبواب الامل في قيام فترة انتقالية تقودها حكومة انتقالية متوافق عليها، تشُكّّل على أساس الكفاءة والنزاهة، بعيداً عن أي محاصصات سياسية أو حزبية أو جهوية. وكان الامل أن تنفذ مهاماً جوهرية تنقل البلد الى مربع جديد.
منذ اللحظة ا لاولى، كان بادياً للعيان أأن الثورة ستواجه تحديات خطيرة، تستوجب كل الجديةّ. ولعل من أبرز مغذّيات التأزم الخانق الذي يعان منه السودان اليوم، هو اخفاق قوى الثورة في التعامل المبكر والناجع معها.
3. تحديات واجهها و يواجهها الانتقال
أوّل التحديات التي واجهها، وما يزال يواجهها الانتقال، أن انتصار الثورة ظل جزئياً وهشاً، اذ توقف عند الاطاحة برأس سلطة نظام الانقاذ وبجزء من غطائها السياسي. وكان واضحاً منذ البداية، أن جسد النظام باقٍ، بسبب طبيعته المعروفة للجميع. و اذا لم يتمكن من استرداد سلطته المنزوعة، فلن يهمه أن يدفع البلد الى نزاع دموي، سيكتسب الشراسة والاستمرارية بفعل عدد من العوامل الداخلية والخارجية.
داخلياً، من الصعب على تحالف الفساد والاستبداد أن يقبل فقدان ما راكمه من ثروات ضخمة خلال سنوات حكمه الثلاثين. وهي ثروات لم تُجن بالكدح أو عرق الجبين، ولم تكن امتداداً لرأسمال موروث، و انما جُنيت باستخدام جهاز الدولة ونهب موارد البلد. وفي الواقع هذه الثروات لم تمُس، وحتى عندما مُست جزئيا أُعيدت بعد انقلاب 25 أكتوبر 2021. ويجري استخدامها حالياً في التحضير الجدّي للانقضاض على الثورة، عبر تمويل أنشطة قذرة تشمل الاعتداء على لجان تسيير النقابات، وتأجيج النزاعات القبلية والجهوية، وكسر هيبة الدولة و اظهار عجزها عن حماية المواطن. وتجد هذه الأنشطة المساعدة من خُلصاء الانقاذ المتنفذين في مؤسسات الدولة، بما في ذلك القضاء والنيابة العامة. كما تسُتخدم هذه الموارد في محاولت التضليل والسيطرة على وسائل التواصل الاجتماعي، ونشر ا لاشاعات، وبث خطابات الكراهية والتضليل والتخذيل والاحباط.
لايزال مرتكبو الجرائم البشعة خلال عقود حكم الانقاذ الثلاثة، ثم ابان حراك الثورة، وبعد انقلاب 25 أكتوبر، يتمتعون بالحصانة من المساءلة أو العقاب. بل لا يزالون في مواقع السلطة. ويتمتعون بسند قوة مسلحة ضمن هيآكل السلطة الحالية، تدين بالولاء لتحالف الفساد والاستبداد، عقيدتها القتالية الانتقام من الشعب ومن ثورته. لذلك نرى أأن هذا التحالف يسعى للانقضاض على الثورة. وقد عزّز فرص الانتكاس مساعي الاستقطاب التي تضطلع بها المحاور الخارجية وحربها بالوكالة على أرض السودان. وبعض هذه المحاور تواصل تمتين علاقاتها مع مجموعات واسعة تتشارك الرؤى وعموميات الفكرة، بهدف خلق غطاء سياسي جديد يعمل على الاستفادة القصوى من جسد تحالف الفساد والاستبداد الذي لا يزال متمكناً في مفاصل الدولة، تمهيد اً للانقضاض على الثورة. وعلى الجانب الآخر من ميدان الحرب بالوكالة، تجتهد محاور مضادة للانتصار لمصالحها، معلنة انحيازها للثورة، بينما تس تخدم تكتيكات ضارة بهذه الثورة.
اذا كان سعي سدنة النظام البائد للانقضاض على الثورة، غير عابئين باحتمال انزلاق البلد الى نزاع دموي، هو أمر متوقع ؛ فان الأمر غير الطبيعي وغير المتوقع أن يأتي أداء أجهز ة الحكم الانتقالية المكونة بموجب الوثيقة الدس تورية للعام 2019، وكذلك أداء الحاضنة السياسية ممثلة في قوى الحرية والتغيير، ضعيف اً ومهزوز اً. وقد فتح هذا ا ألداء الباب لتقدم مخططا تقوى الثورة المضادة.
مثلّ استمرار غياب الرؤية الموحد ة وسط قيادات الثورة تجاه الواقع السياسي الجديد الذي أفرزته الثورة، وموازين القوى في البلد، ودور المحاور الخارجية المشار اليها أعلاه، تحدياً ثانياً خطيراً. صحيح أأن بعض هذه القيادات يدرك أأن تحقيق الكثير من شعارات الثورة يصطدم بتعقيدات جديةّ في الواقع، وأن الموقف الثوري السليم ليس في التنازل عن هذه الشعارات، بل في القناعة بأن تحقيقها لا يمكن أن يتم ضربة لزب، و انما عبر ممارسة تكتيكات ذكية تمنع نمو وتماسك تحالف الثورة المضادة ،وفي ذات الوقت تعمل على تقوية قوى الثورة. لكن، بعض المجموعات الثورية ألاخرى ترى في هذا الموقف تخاذلً و"هبوطاً ناعماً"، بل وخيانة للثورة. ويكمن المخرج الى بر الامان، في التقييم الموضوعي لدور كل الفاعلين ا لاساسيين في المشهد السياسي الراهن، بما في ذلك الجيش السودان وقوات الدعم السريع، وفي التركيز على الاولويات وعدم الغرق في تفاصيل الشكليات الخلافية التي تستثمر فيها القوى والأجهزة المعادية للثورة بحرفية عالية، وفي التمسك بمبدأ أن ما يجمع قوى الثورة أكثر مما يفرقها، وأن الوطن وثورته فوق الجميع وكلاهما يهدده خطر داهم. وفي هذا الصدد، لابد من تنبيه قيادات الثورة، من خطر الوقوع في فخ الشعبوية الضارة، التي تدفعها الى تغيير مواقفها حسب الشعارات المطروحة في الشارع. القائد الحقيقي، كما تعلمّنا التجارب، هو من يحس بنبض الشارع فيحوّل احساسه الى موقف يتماهى مع هذا النبض ويعبّر عنه، لكنه يس تخدم ملكاته القيادية في التحليل ودراسة الواقع وكيفية التعامل معه حتى يتحول ذلك النبض الى حقائق ملموسة.
يتمثل التحدي الخطير الثالث في الجيوش والمليشيات المسلحة العديدة، اضافة الى ما تواتر من أنباء حول بعض المليشيات المتواجدة خارج البلد، واستعداداتها للدخول لنصرة هذا أو ذاك في صراعات السلطة. هل نغمض أعيننا عن هذه الحقيقة، ونواصل التعامل مع قضية السلطة، و أكن هذه الجيوش غير موجودة، أم نبحث في كيفية التعامل الحكيم معها منع اً لتكرار تجارب ليبيا وسوريا واليمن؟
التحدي الرابع هو حالة التشظي و الانقسامات التي ضربت قوى الثورة منذ البداية ثم تفاقمت وطغت عليها اتهامات التخوين المتبادلة. أخلّ هذا الوضع بموازين القوى، ولو مؤقتاً، وأتاح لقوى الثورة المضادة فرصة ذهبية لالتقاط أنفاسها وزيادة ضراوة هجومها المضاد. ان اختلاف الرأي وتباين الرؤى بين مختلف فصائل قوى الثورة ليس مزعجاً في حد ذاته، و انما المزعج هو الفشل في ادارة هذا الاختلاف والتباين. والأكثر ازعاجاً أأن يكون هذا الخلاف حاضراً ومحتدماً في حين تنعدم الرؤية أو المشروع عند أي من هذه الفصائل. وفي كل الأحوال فان ناتج الخلاف والتباين لن يكون انتصاراً لفكرة وهزيمة لأخرى، أو تمكين اً لتنظيم و اضعافاً لآخر؛ و انما طعنة نجلاء لمشروع انجاز مهام الفترة الانتقالية، وتحرير شهادة فشلها.
4. من الأزمة التاريخية الى اعادة البناء
تمتد جذور الأزمة الجاثمة على صدر البلد، الى فجر الاستقلال عندما فشلت الحكومات المتعاقبة، مدنية وعسكرية، في الاجابة على الاسئلة المصيرية المتعلقة ببناء دولة ما بعد الاستقلال. وكل ما فعله نظام الانقاذ طوال ثلاثين عاما هو أنه أوصل هذه الأزمة الى مداها الأقصى. ماهت الانقاذ بين الحزب الحاكم والدولة، وفرضت رؤية الحزب حول ا لسلام، واتخذته غطاءً أيديولوجياً للاستعلاء الديني والعرقي، وبالتالي صعّ دت الحرب الاهلية الى حافة تمزيق الوطن، وتمكين المجموعات الطفيلية من نهب موارد البلد. ويتطلب الخروج من هذا المأزق انقاذ السودان من الدمار الذي خلفّه نظام الانقاذ البائد، ويشترط تنفيذ عملية من ثلاثة مراحل متداخلة ومتشابكة: أأ( وقف الانحدار والانزلاق نحو الكارثة، ب( العمل على اصلاح الحال، ج( الانطلاق لتحقيق المشروع التنموي النهضوي للأمة السودانية.
هذه العملية ثلاثية المراحل ليست كلها من ضمن مهام الحكومة الانتقالية المتوقع التوافق عل يها، رغم أن هذه الحكومة هي المناط بها تنفيذ ضربة البداية، التي كلما أتت محكمة ودقيقة، كلما جاءت نتائجها لصالح نجاح المراحل التالية. والمؤكد أأن هذه المهمة بمراحلها الثلاث لا يمكن أن ينجزها فصيل أو فصيلان، أو حتى تحالف الحرية والتغيير وحده. هذه مهمة تاريخية يقع انجازها على عاتق أوسع جبهة شعبية ممكنة، وهي بحجمها وما يواجهها من تحديات وصعوبات حقيقية، كفيلة باشاعة الاحباط، وربما اليأس، حتى لدى أكثر ال اس همةً وحماساً. لكن، ما يخفف من هذا الإحباط ويفعّل أ ليات مقاومته، ادراك الناس بأن البديل لهذه المهمة التاريخية هو الانزلاق الى هاوية الهمجية المرعبة، حيث تفتت ودمار الوطن.
تتيح فلسفة فترات الانتقال للجميع، بمختلف رؤاهم السياسية والفكرية، التوافق على برنامج أو مشروع وطني يعبّد مداخل وطرق تحقيق حلم كسر الحلقة الشريرة المتحكمة في السودان منذ فجر استقلاله، ويضع السودان على منصة تأسيس جديدة، ترسي دعائم بناء دولة وطنية حداثية. ولكن، ما نشهده اليوم في المسرح الس ياسي السودان ل علاقة له بفلسفة الانتقال هذه، و انما بالفشل في الاستجابة لها. وهو مشهد متك رّر في كل تجارب الانتقال التي مر بها السودان منذ أأن نال استقلاله. اثنتان من تلك التجارب الفاشلة انتهت بتسلط أنظمة عسكرية شمولية على البلد في عامي 1958 و1969. وأفضت تجربة فاشلة ثالثة، الى تسلط نظام أيديولوجي ارهابي عام 1989، رفع المصاحف وشعار ا لسلام، لكنه عمل بهمة عالية على تمكين الفساد والاستبداد، واستباحة الوطن لصالح المصلحة الحزبية والشخصية، وترك أثاراً مدمرة على البلد والناس. أما التجربة الانتقالية الفاشلة الرابعة، عام 2011، فأفضت الى انشطار البلد الموحد الى بلدين.
نعيش في الوقت الحالي الفترة الانتقالية الخامسة، وكل المؤشرات تبثّ القلق من أن مسارها يتجّه الى الفشل، وأن النخب السياسية الفاعلة، سواء في الحكم أو داعمي الحكم أو معارضيه، يديرون السياسة و كانهم عميت بصيرتهم، أو فاتتهم دروس تاريخ السودان الحديث، فلم يعُوا أو يتعلمّوا أو يفهموا من فترات الانتقال الاربع السابقة دروس الفشل ونتائجها الكارثية. ان الازمة التي تعصف بالسودان اليوم، ومنحدر الهاوية التي يكاد يستقر في قاعها، تستلزم أن يأخذ الفعل السياسي خلال ما تبقى من الفترة الانتقالية الراهنة منحى جديد اً. فبدل تشتت الجهود هنا وهناك، لابد من توحيدها، في كل أ أنحاء البلد، في مجرى الفعل السياسي الجماعي القادر على دحر انقلاب 25 أكتوبر 2021. هذه الوحدة ضرورية للوصول بنضالات الجماهير الى غاياتها المنشودة في اقتلاع جذور النظام البائد، وخلق بديل جديد تترسّ فيه الديمقراطية التي ينمو فيها احساس الحرية والعدالة والكرامة، تحت مظلة التن وّع والتعدد السياسي والاثني والثقافي.
يبدأ مشوار اعادة بناء الوطن، بجلوس أبناء السودان جميعهم، عبر أجسامهم السياسية والاجتماعية والثقافية والقبلية، لرفع سقف القواسم المشتركة بينهم، وتحديد الفواصل الضرورية بين جهاز الدولة والنظام السياسي الذي يحكم، حتى نمنع اطلاق يد فرد أو فئة لتطيح بالآخرين وتنفّذ فيهم ما يعشعش في أمخاخها من أوهام. ولنتوافق على معالجة اقتصادية تخرج الفقراء من دائرة العوز؛ ونعيد بناء أمة متوحدة على المبادئ والقيم ا لانسانية التي تضع الانسان فوق كل اعتبار على أساس الحرية، والعدل، والمساواة، والمواطنة، وحقوق ا لنسان، والعلم والمعرفة، والتحديث، وأيضاً تسييد قيمة حب العمل و انجاز التنمية المستدامة. ويرتبط المشروع النهضوي في السودان بالنجاح في ادارة التن وّع والتعدّد، والنجاح في صياغة وتنفيذ برنامج التنمية المتوازنة المستدامة، وبالانفتاح على آخر منجزات الثورة التكنولوجية والثقافة العالمية، وبطرح تصوّرات لتقديم العلم والمعرفة بذات الجودة للجميع بدون استثناء وبدون أعباء مالية على المواطن. عبر هذه الارتباطات، ومن خلالها، سيتم احياء سر البناء المتمثل في تحرير العقل من سجون التجريم والتحريم. وهذا يساعد على نمو مجتمع مدن قادر على التصدي لدوره في التوعية والتثقيف ومراكمة جزيئات النهضة الحضارية الجديدة.
5. مهام تنتظر ما تبقى من الفترة الانتقالية: قضايا الحوار والمراجعة من حيث المبدأ، سيظل الحوار والتفاوض وتجنب العنف دائم اً هو الخيار المفضل لحل الأزمات. لكن من الضروري جداً التفريق بين الحوار الذي يخاطب جوهر الازمة، والحوار الذي يفضي الى حلول تصالحية سطحية، أو تسوية، لتخاطب هذا الجوهر، بل تكتفي بالعفو المتبادل واقتسام كراسي السلطة. ومعيار نجاح أي حوار أو تفاوض، هو أن يؤدي الى التوافق على فترة انتقالية مهمتها الأولى هي تصفية أشكال الحكم القائم التي قادت الى الازمة تصفية تامة، وتكوين صيغة جديدة يقننّها دستور ديمقراطي يصون حقوق الجميع، ويجنب البلد كوارث الصراعات الدموية والحروب الاهلية.
صحيح أأن محصلة أي حوار أو تفاوض تخضع لقانون المساومة وتوازن القوى، ولهذا السبب تحديداً فان قصر الحوار على النخب السياسية فقط داخل الغرف المغلقة، سيجعل ميزان القوى يميل لصالح المجموعة المتنفذة. وأقصي ما سينتهيي اليه هكذا حوار أو تفاوض هو اقتسام كراسي السلطة، بينما سيتم تجاهل مطالب الشارع، مما يعني استمرار الازمة . فقط في الضوء، وتحت أعين ورقابة الجماهير، يمكن أأن يأتي الحوار والتفاوض بنتائج ايجابية لصالح حل الازمة. وفي النهاية فان أي اتفاقات أو تسويات لتستجيب لما ظل ينادي به الشارع لأكثر من عام، وتحديد اً ابتعاد العسكر عن السلطة، ومحاسبة المسؤولين عن جريمة مذبحة فض الاعتصام، في 3 يونيو 2019، وقتلة المتظاهرين بعد انقلاب 25 أكتوبر 2021، ستفاقم الازمة وتدفع بالبلد الى منعرجات خطيرة.
بافتراض أن الحراك السياسي الذي يجري الآن في البلد سيفضي الى واقع سياسي جديد تتشكّّل على ضوئه حكومة مدنية تستكمل ما تبقى من الفترة الانتقالية )24 شهراً(، هنالك مجموعة من الاعتبارات نرى أهمية أن تنتبه لها الحكومة المدنية المقبلة والقوى الحاضنة لها، ومن ضمنها:
اولا ، تحتاج كل قيادات وأجسام قوى الثورة، خاصة القوى التي تسنمت قيادة الفترة الانتقالية في الفترة الماضية، الى وقفة مراجعة وتقييم وتقويم للتجربة السابقة. الهدف ليس مجرد ابراء الذمة، أو تبرير الاخفاقات، أو شخصنة القضايا وتحميل الوزر لهذا أو ذاك، و انما تفريغ أي شحنات سالبة، ساكنة في هذه القيادات والأجسام مجتمعة. كذلك التزود بمحفزات وطاقة ايجابية تقوي الارادة وتتبدى في مكاشفة شفافة مع الناس حول ما تم، وما لم يتم، ولماذا، واتخاذ قرارات مدروسة لصالح المزيد من الكفاءة والفعالية في ادارة المرحلة القادمة.
ثانياً ، لا بدَُّ من عدم تكرار الأخطاء الفادحة التي صاحبت عملية تكوين الحكومة الانتقالية الأولى ومجلس السيادة الانتقالي، وهي أخطاء تتحملها بالدرجة الأولى قوى الحرية والتغيير بكل مكوناتها. فبالرغم من وجود لجنة لفلترة الترشيحات الواردة من مكونات قوى الحرية والتغيير، الأ أن مهامها تركزت في الفحص السياسي فقط، ولم تكن هناك أي ألية لفحص مسألة الكفاءة والخبرة. وفي أحيان كثيرة كان يتم الاعتماد على السيرة الذاتية المكتوبة للمرشح. وبالنسبة لمجلس السيادة، افترض الجميع أنه مجلس تشريفي، لا علاقة له بقضايا الانتقال والصراعات السياسية المحتملة حولها، رغم أنه يضم المكون العسكري، كطرف رئيس في هذه الصراعات. لذلك لم يتم الترشيح لعضوية مجلس السيادة بالجد يةّ المطلوبة، في حين كان من الواجب ترشيح عناصر سياسية ذات ثقل وتجربة. وبالطبع، أثبتت التجربة أن ذلك الافتراض كان خطآً فادحاً، وأن مجلس السيادة كان مركزا رئيساً للصراع السياسي. ولا بد من ضخ دماء جديدة من الكفاءات الوطنية في أجهزة الانتقال القادمة، مع توضيح حيثيات ترشيحهم بشكل علني. ويتم تقديمهم عبر الاعلام المرئي ليطرح كل منهم رؤاه وكيفية ادارته لوزارته، ويدار معه حوار بواسطة مختصين و اعلاميين وممثلين لقطاعات الشعب.
ثالثاً، كان تعامل قيادات الفترة الانتقالية خلال الفترة الماضية في ملف السلام مع الحركة الشعبية لتحرير السودان/شمال برئاسة القائد عبد العزيز الحلو، وحركة تحرير السودان برئاسة القائد عبد الواحد محمد نور، ضعيفاً ومشكوكاً في جديته، رغم اتفاق اعلان المبادئ الموقع بين البرهان والحلو، الذي بدا كانه طُوي في غياهب النسيان. لا بد للقيادة القادمة أن تشحذ الارادة وتذلل كل المعوّقات للتعجيل بانضمام الحركتين الى قطار السلام، وأن تضع ذلك في قمة أولوياتها. ثم تجتهد لعقد مؤتمر قومي للسلام الشامل، يحضره كل أصحاب المصلحة من مناطق النزاعات والحروب، والقوى الس ياس ية والمدنية الأخرى. ويجب أأن يناقش المؤتمر كيفية المزج والمزاوجة بين نتائج اتفاقات السلام المختلفة، ووضع أسس السلام المستدام.
رابعا ، سيكون مفيداً جداً اذا ابتدرت الحكومة الانتقالية الجديدة نشاطها السياسي بعقد مؤتمر "مائدة مستديرة" للتوافق حول خارطة طريق وخطة عمل قابلة للتنفيذ لانقاذ الوضع المأزوم و ايقاف تدهوره، على أن تشارك في المؤتمر كل القوى الموافقة والموقعة على الاعلان السياسي والدستور الانتقالي المقترحين، الى جانب المكونات والقوى والشخصيات الوطنية التي يمكن التوافق عليها. وهناك ضرورة لبذل كل الجهود الممكنة مع لجان المقاومة لكي تشارك في المؤتمر، على أأن تظل أبواب المؤتمر مغلقة أمام سدنة نظام الانقاذ البائد وحزب المؤتمر الوطني.
خامسا ، البدء فوراً في صياغة القوانين والاجراءات اللازمة والضرورية لتنظيم انتخابات المجالس المحلية بمستوياتها المختلفة. فهيي يمكن أن تلعب دوراً رقابياً، حتى تجاه الحكومة القومية والاجهزة الانتقالية المختلفة، اضافة الى تعاملها المباشر مع قضايا المواطن المعيشية. ثم أأن الانتخاب اليها سيعتمد كثيراً على معرفة الناخب المباشرة بالمرشح وليس عبر حزبه، وسيصوت الناخبون للمرشح ألاقدر على خدمتهم، من وحي التجربة اللصيقة في الحي أو المحلية، غض النظر عن انتمائه الحزبي. وهي باختصار تمرين أساسي في عملية بناء التحول الديمقراطي من القاعدة الى الأعلى. ومن تجربة انتخابات المجالس المحلية هذه، يمكن أأن تتولد أفكار تساعد في بلورة أي النظم الانتخابية أفضل لبلادنا في ظل الضعف البائن في أحزابنا السياسية المنهكة القوى، وحتى لا نواصل ممارسة الكسل الذهني، فنهرع سريعاً لنسخ ولصق تجارب انتخابية مجرّبة وناجحة في بلدان أخرى، كتجربة وسنستمر مثلاً، لكنها لا تلائم واقعنا الراهن فظل الفشل حليفها، ودائماً ما تتم مصادرتها ببديل كارثي.
سادساً، على الرغم من ادراك الجميع خلال الفترة الماضية بأن استقرار الفترة الانتقالية وتقدّ مها حتى نهايتها المتوافق عليها رهين بقيام المجلس التشريعي الانتقالي، وقد تم النص على ذلك في الوثيقة الدستورية لعام 2019، الا أن قيادات تلك الفترة وحاضنتها السياسية، قوى الحرية والتغيير، فشلت في انجاز هذا الواجب الهام. ولعل هذا الفشل كان من ضمن العوامل الرئيسة للتخبط الذي عانت منه تلك الفترة الانتقالية، حد اطلاق الرصاص على الثوار واقتناصهم ، وحدّ الصراع الشرس بهدف التمكّن سياسياً من أهم مؤسسات الدولة، المؤسسة العدلية قضاءً ونيابة عامة، مما يعني انهيار حكم القانون. ومعروف أن السلطة التشريعية تمثلّ أحد الضمانات الرئيسة للتحول السياسي والمجتمعي في الفترة الانتقالية، وذلك في ظل عدم استقرار أليات العمل الجديدة التي يتطلبها التغيير الثوري، وعدم ا لضعاف الكافي لمكامن قوة دولة الانقاذ العميقة أو الموازية، التي لاتزال متمكنة وتسعى الى عرقلة التغيير. وفي فترات الانتقال عموماً، يكون التنافس السياسي والاجتماعي على أشده، ومع غياب المؤسسات التشريعية، كاطر من ظّمة ومرا قبة وفق القانون، تلوح في الافق امكانية اخفاق العملية السياسية في تنفيذ مهام الانتقال، في حين أأن المجلس التشريعي الفعّال، هو وحده القادر على ضمان عملية التحول الس ياسي والديمقراطي في الفترة الانتقالية، بعيداً عن نزعات الاقصاء والاستئصال، أو اختطاف طموحات الناس وآمالهم في التغيير. وبالطبع، فان المجلس التشريعي الانتقالي، و لانه غير منتخب، ستنحصر صلاحياته فقط في مراقبة أداء الحكومة ومساءلتها، وتغيير تركيبتها اذا اقتضى الامر، تحقيقاً لمبدأ منع اساءة استخدام السلطة وحماية حقوق المواطنين وحرياتهم، الى جانب سن التشريعات الضرورية لتصفية نظام ا لانقاذ، وكذلك التشريعات المتعلقة بقضايا الفترة الانتقالية. أما القضايا المصيرية المرتبطة باعادة بناء الدولة، فهيي خارج صلاحيات المجلس التشريعي الانتقالي، ول يمكنه البت فيها، و انما تترك للمؤتمر القومي الدس توري والمجلس التشريعي المنتخب.
سابعا ، في قمة سلم أولويات للحكومة القادمة، تكوين المفوضيات القومية المستقلة، الواجب الذي سقط تماماً من دفتر مهام واهتمامات الحكومة الانتقالية السابقة وحاضنتها الس ياس ية. هذه المفوضيات لها أهمية قصوى وتلعب دوراً مفصلياً في نجاح الفترة الانتقالية. فهيي تمُثل الاليات الرئيسة لاستعادة الدولة المخطوفة من براثن حزب النظام البائد، وفي تحقيق عملية الانتقال بالسودان من دولة الحزب الواحد الاستبدادية الى دولة الوطن الديمقراطية، وذلك من خلال قيادتها لعملية اصلاح شامل وعميق في كل مفاصل الدولة السياسية والعدلية والعسكرية والامنية والخدمة المدنية...الخ.
سابعًا،من الضروري أن تلتزم الحكومة وتتقيد بمبدأ المراجعة والتقويم في اطار ثلاثية المشاورة والشفافية والمساءلة ،وأن تقترح، في هذا السياق، ألية مناسبة تخاطب من خلالها الناس بصورة راتبة ودورية ومنتظمة. هذه الثلاثية كانت غائبة، أو ضعيفة، خلال الفترة الماضية، علماً بأنها تعتبر من أهم أركان ُحسن ادارة الدولة وتحقيق النجاح في التصدي للقضايا السياسية والتنموية، كما أنها تجسد معنى الحكم الراشد، وتسهم في رفع الروح المعنوية وفي التمسك بالامل. ولعل من الاخطاء التي صاحبت أداء الحكومة الانتقالية السابقة، اكتفاءها بصياغة رؤاها واجاباتها لمعضلات قضايا الحكم التي تواجهها، خلف أبواب مغلقة بدل من اعلاء قيمة التشاور وممارستها بكل الجدية المطلوبة. ولتوضيح ذلك، نضرب المثالين التاليين: بالنسبة لادارة الاقتصاد، واجهت الحكومة الانتقالية السابقة مجموعة من التساؤلات الهامة، مثل: ماهي القرارات والتدابير الملائمة للخروج من المأزق الاقتصادي الراهن، ولانقاذ البلد من الانهيار الاقتصادي؟ وكيفية الموائمة ما بين توصيات المؤسسات المالية الدولية بشأن أداء الاقتصاد السودان، والضنك الذي تسببه هذه التوصيات للمواطن السودان الذي يعان أصلا من شظف العيش؟ ومع تبني الحكومة لهذه التوصيات، هل يمكنها التدخل لحماية الحقوق المكتسبة للمواطنين خاصة في مجالات العلاج والسكن والتعليم واشباع السوق وضبط سياسات الاسعار...الخ؟ وأصلا، هل هناك حوجة ماسة الى جرعات كبيرة من اقتصاد السوق، أم يمكننا التحكم في الحياة الاقتصادية بوسائل أكثر تأثيراً من ألية السوق؟ كيف يمكن تأمين رقابة اجتماعية وحكومية على التقيّد بالقوانين وضبط علاقات السوق؟...الخ. ومن الواضح أن الاجابة على هذا النوع من ألاسئلة، تتطلب قدراً أوسع من التشاور والشفافية مع الخبراء الاقتصاديين وقيادات قطاعات ا ألعمال والمجتمع المدن والعاملين
والمواطنين، وهو ما لم يحدث خلال تلك الفترة.
يتعلق المثال الثاني بالاداء التنفيذي لمجلس الوزراء الانتقالي السابق، بنسختيه ألاولى والثانية. فالمجلس عقد عدة اجتماعات مغلقة (retreat) لمراجعة وتقييم ألاداء، والتفاق على خارطة طريق للمرحلة التالية. وبعد كل اجتماع كان يتم العلان عن التوصل الى قرارات هامة حول أولويات قضايا الانتقال التي يفترض أن تتصدى لها الحكومة. لكن في كل مرة كان يأتي الاعلان مقتضبا، ومحتواه عبارة عن عموميات وعناوين مكررة عن قضايا الانتقال المعروفة للجميع، بدون تحديد أي أليات تنفيذ ومتابعة، في حين كان ألامر يتطلب التوسع في شرح ما تم في تلك الاجتماعات المغلقة، ومناقشته مع رؤساء تحرير الصحف وفي وسائل العلام المختلفة، ومع قيادات الحرية والتغيير ولجان الاحياء و أصحاب العمل والقوات النظامية والمنظمات الاجتماعية المختلفة وسائر قطاعات الشعب. فالامر هنا لا ينحصر في اعلاء قيم التشاور والشفافية فحسب، وانما يمتد الى شرح كيفية متابعة تنفيذ بنود خارطة الطريق، العاجل منها والآجل، التي تم التوصل اليها في هذه الاجتماعات، وما هو دور الشعب، أفراداً ومنظمات وقطاعات، في المشاركة ومتابعة التنفيذ. ان التشاور الحقيقي الفعال، وليس التشاور الصوري، يشمل أهل الخبرة والمعرفة بداية، ثم يمتد لتشارك فيه كل فئات المجتمع، من القاعدة الى أعلى، ويتضمن تحلي ًلا دقيق ًا للفرص المتاحة ومواطن الضعف، وتحديداً الادواركل من الحكومة والقطاع الخاص والمجتمع المدن والمواطنين العاديين.ولعل المشاورة والشفافية يمكن اعتبارهما، مع عوامل أخرى، من أهم معايير قياس مدى ودرجة تخلل وانسياب روح ثورة ديسمبر المجيدة
في جسدالحكومة الانتقالية، هياكلا وشخوصًا.
ثامنا، في بدايات تشكيل الحكومة الانتقالية السابقة، تمت صياغة اقتراح تفصيلي حول انشاء وتكوين مكتب لصنع السياسات (Policy making office) يتبع مباشرة لرئيس مجلس الوزراء، ويكون متخصص ًا في رسم السياسات العامة، ويساعد الحكومة في عملية اتخاذ القرارات المناسبة على ضوء حيثيات علمية يوفرها المكتب. ورغم أن هذا الاقتراح وضع على طاولة كل من رئيس الوزراء الانتقالي ورئيس مجلس السيادة الانتقالي، والاثنان رحبا به وناقشاه في اللقاء المشترك، الا أن أيا منهما لم يبت في أمره وكان مصيره سلة المهملات. هذا المكتب، بمسميات مختلفة، موجود في كل الحكومات، بما فيها حكومات ا ألانظمة الديمقراطية المستقرة في الدول المتقدمة،التي تعتمد عليه كثيراً، وأحيانا اعتماداً كليًا،في تصريف شئون الحكم من ناحية رسم السياسات العامة ودعم عملية اتخاذ القرار. واذا كهذا هو حال البلدان المتقدمة، فان البلدان التي لا تزال تحبو نحو تحقيق التحول الديمقراطي والاستقرار السياسي وبناء الدولة، والتي لا تزال تعيش واقعا انتقاليا، كما هو حال سودان اليوم، هي في أمس الحاجة الى مثل هذا المكتب. ومادام الطاقم التنفيذي في الحكومة يفتقد الخبرة والدراية، وهو أمر طبيعي ومتوقع ويمكن علاجه، فان تأسيس هذا المكتب منذ ألايام ألاولى لتشكيل مجلس الوزراء الانتقالي، كان ضرور ًيا. والمكتب هو وحدة حكومية مكونة من خبراء وكوادر مهنية متخصصة، يتولى بحث ودراسة الملفات المتعلقة بالسياسات العامة ومقتضيات العمل اليومي، وأي ملف يوكل اليه من رئيس مجلس الوزراء، بدءاً من توفير كل المعلومات اللازمة حول الملف المعين وقتلها بحثا ودراسة، معالجا الاحتمالات والتوقعات، ومقترحا السيناريوهات والبدائل الملائمة، وذلك على المستوى العملياتي قصير ألامد. والمعيار الوحيد لاختيار عضوية المكتب هو محصلة العلم والمعرفة والخبرة والتخصص والمهنية العالية، بعيداً عن أي محاصصة سياسية حزبية أو جهوية أو خلافه. ومن المهم أن تنظر الحكومة الانتقالية
القادمة بعين الاعتبار الى هذا المقترح.
تاسعا، معروف أ ّن انجاز أي عمل يتطلب فعلا ثلاثي الاضلاع ، و أضلاعه هي الخطة والتنفيذ والمتابعة. و ألاضلاع الثلاثة هذه، مترابطة جدليا في وحدة لا يمكن بدونها انجاز أي فعل بنجاح. وهذا الفعل الثلاثي يمثّل أحد أهم أركان العمل القيادي
في ادارة الجهاز التنفيذي عبر مجلس الوزراء، وهو ما يجب أن تنتبه له الحكومة الانتقالية القادمة. فبدون تفعيل ألية التنفيذ والمتابعة، وبدون الاشراف والمتابعة القيادية من مجلس الوزراء ورئيس مجلس الوزراء، ستظل قرارات الحكومة حبيسة محاضر الاجتماعات بدون تنفيذ.
عاشرًا، أهمية أن يكون المجلس القومي للتخطيط الاستراتيجي من ضمن أهم أولويات الحكومة الانتقالية القادمة، وذلك لاعتبارات مفهومة ومعروفة للجميع تتعلق بدور المجلس في رسم سياسات الدولة وخططها وبرامجها الاستراتيجية، والمتعلقة بالمشروع الوطني، واستدامة السلام، وتعزيز المواطنة والهوية السودانية، والتنمية المستدامة، وخفض الفقر وتحقيق أهداف الافية، والحكم الراشد وسيادة القانون، والبناء المؤسسي وبناء القدرات، وتطوير البحث العلمي...الخ، فض ًلا عن مواءمة
المشروعات والبرامج المختلفة مع أولويات الحكومة واعداد مؤشرات القياس.
أحد عشر، من أهم واجبات الحكومة الانتقالية القادمة، وربما هو الواجب ا ألهم، اعادة بناء المنظومة الحقوقية والعدلية التي تعرضت خلال سنوات الانقاذ لتخريب غير مسبوق. نذكر هنا بأن قانون مفوضية اصلاح المنظومة الحقوقية والعدلية، التي يُفترض أن تعيد بناء وتطوير المنظومة وتفكيك بنية التمكين فيها، أجازه اجتماع التشريع المشترك لمجلسي السيادة والوزراء الانتقاليين بتاريخ 22 أبريل 2020، ووقعه رئيس مجلس السيادة الانتقالي، ونشر في الجريدة الرسمية لجمهورية السودان،
العدد 1904، بتاريخ 13 يوليو 2020. وقد نص القانون على أن الجهة التي تشكّ المفوضية هي مجلس الوزراء الانتقالي.
اثنا عشر، تهتم الحكومة الانتقالية القادمة ببناء علاقة استراتيجية مع دولة جنوب السودان، تبد أ بفتح المعابر وحرية التجارة الحدودية ومراجعة اتفاقيات مرور النفط...الخ، مروراً باتفاق الحريات الاربعة، فالتكامل الاقتصادي والاجتماعي بين البلدين، وصولا الى الصعود بالعلاقات الى مستويات استراتيجية أعلى.
6. مهام سياسية تنتظر الحكومة الانتقالية القادمة
تدخل النقاط الثنا عشرة المذكورة أعلاه ضمن المهام السياسية والاقتصادية المطلوب انجازها خلال ما تبقى من الفترة الانتقالية، ويُفترض أن تح ّولها الحكومة الانتقالية القادمة الى مصفوفة جاهزة للتنفيذ وفق جدول زمني محدد. وبالنسبة للمهام السياسية، نذكر منها:
• استكمالا لاستحقاقات التحول الديمقراطي بكل تفاصيله،ويشمل ذلك الغاء النصوص التي تتعارض مع حرية التنظيم والتعبير والصحافة والحقوق والحريات الاساسية كافة، في كل القوانين السارية، وتشريع قوانين ونصوص
تؤكد احترام التعددية والتنوع، وكفالة الحقوق والحريات، وسيادة حكم القانون واستقلال القضاء، والفصل بين
السلطات، واستقلال النقابات والاتحادات المهنية، والاستعداد للتداول السلمي الدستوري للسلطة...الخ.
• استكمال ملف السلام مع الحركة الشعبية لتحرير السودان/شمال بقيادة عبدالعزيز الحلو ،و حركة تحرير السودان بقيادة عبد الواحد محمد نور.
• محاسبة كل من ارتكب جرمًا في حقا لوطن والمواطن، ويشمل ذلك جريمة مجزرة فض الاعتصام في3يونيو 2019، وكذلك جرائم قتل المتظاهرين قبل وبعد 25 أكتوبر 2021.
انتزاع مؤسسات الخدمة المدنية والعسكرية والأمنية والشرطية من براثن الدولة العميقة، وذلك مدخلا لمراجعة قوانينها وهياكلها والتغييرات التي ُأدخلت على تركيبة مجالسها وأجهزتها المتخصصة، ومراجعة التوظيف وحالت الفصل التعسفي والفصل للصالح العام، وكل التظلمات التي حدثت خلال عهد الانقاذ. ومن ثم اعادة بناء هذه المؤسسات وهيكلتها على أساس قومي بعيداً عن الحزبية والانتماء السياسي، مع اعطاء أولوية للقضاء و ا لأجهزة العدلية ، على أن يتم ذلك وفق اجراءات تلتزم بالقانون.
• تشكيل المفوضيات القومية المستقلة.
• اجراء الانتخابات المحلية على مستوى الأحياء والمناطق. اصلاح التعليم من خلال مراجعة المناهج التعليمية، وكذلك أوضاع المعلمين،والعمل على تنوع أشكال التعليم من تقني و أكاديمي وتجاري، وادخال النظريات التربوية الحديثة، وربط التعليم بثورة التكنولوجيا.
• اصلاح السياسة الخارجية بعيداً عن المحاور والارتهانات الأجنبية. • اجراء التعداد السكان. • ابتدار مصالحة وطنية تقوم على رفع المظالم ودفع الضرر،واطلاق مبادرة للعدالة الانتقالية.
• مراجعة تجربة الحكم الاتحادي، بواسطة الخبراء وبمشاركة مختلف القطاعات الجماهيرية ،خاصة في المناطق الطرفية. كما يجب اتخاذ التدابير اللازمة لتمكين أهل المناطق المختلفة من ادارة شؤون مناطقهم، وتوسيع اللامركزية باعطاء
المزيد من السلطات لتلك المناطق على حساب المركز. ويقترن كل ذلك بكفاية الموارد وعدالة توزيعها بناء على معايير علمية ومدروسة ونافذة، والتمييز الايجابي على المستوى النمائي للمناطق ا لأقل نمواً بهدف مساعدتها
للوصول الى مستويات متقدمة نسبيا.
• عقد المؤتمر الدستوري القومي للتوافق حول قضايا شكل حكم وعلاقة الدين بالدولة والهوية، والتوافق على الثوابت الدستورية لبناء الوطن، التي ستضمن في مسودة الدستور الدائم للبلاد.
• التوافق على مفوضية الانتخابات وقانون انتخابات يتجاوز سلبيات التجارب الديمقراطية السابقة، بعد الاستقلال (1956) وبعد ثورة أكتوبر (1964) وبعد انتفاضة أبريل (1985)، الناتجة من النقل الاعمى من الديمقراطية الغربية (ديمقراطية "وستمنستر)، التي أكدت التجربة عدم ملائمتها للواقع السودان الراهن. الى جانب اجتراح صيغة للممارسة الديمقراطية التعددية في بلادنا تراعي بشكل دقيق الخصائص المميزة للواقع السودان بتعرجاته الاثنية والطائفية والعقائدية، وفي نفس الوقت تحافظ على جوهر الديمقراطية الواحد الثابت، المتمثل في حزمة الحقوق والحريات، وسيادة حكم القانون واستقلال القضاء، والفصل بين السلطات، واحترام التعددية، والتداول السلمي للسلطة...الخ.
7. ملامح البرنامج الاقتصادي
نبدأ من القرار بأن المشكل الاقتصادي كان هو الشرارة التي أشعلت ثورة ديسمبر 2018. ويمثّل التصدي ل ألزمة الاقتصادية الركن ا ألهم في مهام الحكومة الانتقالية القادمة عبر وضع وتنفيذ برنامج اسعافي عاجل. مهمة هذا البرنامج وقف التدهور الاقتصادي؛ وتخفيف أعباء المعيشة؛ وكشف وضرب مكامن الفساد في الدولة والمجتمع. خاصة وأن لجم العنف المستشري الآن وتحقيق السلام الاجتماعي لن يتأتى مع اقتصاد منهار. واذا ما أرادت الحكومة الانتقالية القادمة انجاح أي مشروع اقتصادي بديل، فلا بد أن تلتزم بمجموعة من المبادئ الرئيسة، منها:
أولا ، لن تستطيع أي تدابير اقتصادية وفنية بمعزل عن السياسة، بما في ذلك محاولة تحقيق الحوكمة في الاقتصاد ومحاولة استجلاب الدعم والعون الخارجي، اخراج البلد من أزمتها الاقتصادية الخانقة. ولا يمكن أن تحقق أي نجاح، ما لم تعيد النظر في مناهج وأليات ومؤسسات وشخوص ادارة العمل السياسي في البلد، بما يحقق نظام حكم راشد، على المستوى القومي والمستوى المحلي، يتسم بالفاعلية والشفافية والعدالة، ويلتزم بالمؤسسية وسيادة حكم القانون. ويشمل ذلك، اتخاذ التدابير اللازمة لتحقيق ديمقراطية الدارة الذاتية في المناطق والمحليات، على النحو المذكور في البند رابعا من القسم 5 أعلاه بشأن "مراجعة الحكم الاتحادي".
ثانيا، ضرورة امتلاك رؤية تنموية واقعية تستند الى موارد الدولة وامكاناتها الاقتصادية، وتضع حاجات المواطنين الأساسية في مقدمة ا لأولويات. ويقوم تطبيق هذه الرؤية على توسيع المشاركة الشعبية في تحديد الأولويات وفي صنع القرار التنموي، واخضاع السياسات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للتمحيص من خلال الحوار العام المفتوح. ويجب أن ُتكفل سهولة الحصول على المعلومات، وتوفّر الشفافية في الصفقات الاقتصادية، وتمكين الرقابة الشعبية في كل مراحل العملية التنموية. كل هذا من شأنه أن يؤدي الى ادارة عقلانية للموارد الاقتصادية والبشرية، والى افساح المجال لتسليط الضوء على جوانب القصور وعدم الكفاءة في الأجهزة الحكومية، والى الكشف عن التجاوزات
والممارسات المنحرفة، والى محاربة الفساد.
ثالثا، من المشاكل الكبرى التي يعان منها السودان، ضعف المؤسسات والدارة العامة للدولة التي أفرغها نظام الانقاذ البائد من محتواها. لذلك، في البدء ل بد من الصلاح المؤسسي للوزارات والمؤسسات الحكومية المعنية بادارة الاقتصاد، كالبنك المركزي ووزارة المالية ووزارة التجارة. ويتطلب الصلاح المؤسسي أن تتوفر لدى مجلس الوزراء والمسؤولين في الوزارات والمؤسسات المختلفة ارادة قوية وقدرة على توظيف الخبرات التي تذخر بها البلد، اذ ل يمكن أن يتم الصلاح المؤسسي بأيدي وزراء ومسؤولين ضعيفي القدرات. أما بالنسبة للبنك المركزي، فلابد من تحريره من "الهيمنة المالية" المفروضة عليه، التي فاقمت من التأثيرات الاقتصادية السالبة للعنة الاقتصاد الريعي، مع تفعيل دور السياسة النقدية ودور البنك في التنمية، وليس فقط التثبيت المالي والنقدي. واذا كانت المهمة الرئيسة لوزارة المالية هي الولية الحصرية على المال العام، بما في ذلك التحكم والاشراف على الموا نزة وضبط التوازن بين ايرادات الدولة ومصروفاتها، فان الدور الرئيسي لوزارة التجارة يتمثل في تنظيم وتطوير ومراقبة أنشطة التجارة الداخلية والخارجية، وحركة الصادرات والواردات، وضبط الجودة والمواصفات بالنسبة للصادرات السودانية حتى تتمكن من المنافسة في الأسواق الخارجية.
رابعا، تتمسك الدولة بدورها في التخطيط التأشيري واعادة توزيع الموارد، وفي السيطرة على تدفقات العون الخارجي ومتابعة المشروعات التنموية المرتبطة بهذا العون، ويمكّنها من وضع اقتصاد السوق تحت شروطها، ويعزز سعيها لتأسيس شراكة قوية بين القطاع العام والقطاع الخاص والمجتمع المدن من أجل بناء خطط استراتيجية هدفها الاساسي تنمية حياة الناس.
خامسا، لن ُتحل أزمات السودان السياسية والاقتصادية من خارجه أبداً، بمجهودات المجتمع الدولي أو الاقليمي، أو باعتماده على العون والدعم الخارجي. وبالطبع، هذا ل يعني التقليل من الدور الهام الذي يمكن أن تلعبه المؤسسات المالية الدولية والدول المانحة والاستثمار الخارجي في انتشال السودان من كبوته الاقتصادية. لكن هذا الدور ليس هو العامل الرئيسي والحاسم في انقاذ الاقتصاد السودان، فالسياسات الداخلية هي المناط بها حل الازمة الماثلة. ومع ذلك ، لابد
يعد السودان عدته ويكمل استعداداته للتعامل المالي والاقتصادي مع المؤسسات المالية والدول المانحة ولاستقبال أي عون خارجي و أي استثمارات خارجية تتدفق على البلد، وذلك بتهيئة بيئة ملائمة وتربة خصبة لاحتضان انفتاح الخارج عليه، حتى تحصد البلد ثماره رفعا للمعاناة ومساهمة في التنمية. بدون ذلك فان الفائدة المرجوة من الدعم الخارجي ستكون بعيدة المنال. ومن بين مكونات هذه البيئة الملائمة توفر الاستقرار والأمن وا ألمان، وسيادة حكم
القانون، والصلاح المؤسسي للوزارات والمؤسسات الحكومية المعنية بادارة الاقتصاد.
سادسًا، أن تكون الحكومة الانتقالية مدنية بالكامل،وأن تتمسك بالصلاحيات السياسية الديمقراطية التي عّبرت عنها شعارات ثورة ديسمبر المجيدة، الحرية والسلام والعدالة، على أساس قيم المواطنة وحقوق النسان. ويجب أن تستخدم هذه الحكومة المدنية جهاز الدولة لارساء دعائم نموذج تنموي يزاوج بين التنمية الاقتصادية والتنمية الاجتماعية واحتياجات الناس. ويكون ذلك من خلال طرح مبادرات استثمارية متنوعة، وخلق بيئة استثمارية جاذبة، ودعم المشاريع الصغيرة، والاستثمار في التعليم والبحث العلمي، والعمل على خلق اقتصاد تنافسي مرتبط بحركة الاقتصاد العالمي؛ يستفيد من الوسائل التكنولوجية، وممارسة الدبلوماسية التجارية الناجحة لفتح الأسواق العالمية أمام المنتجات
المحلية.
سابعا: وقف الانهيار الاقتصادي ووضع برنامج اسعافي وتنموي هدفه وغايته المواطن وجماهير الغلابة في الريف والحضر. وفي هذا الصدد هناك مجموعة من التدابير، منها:
ترشيد النفاق وتقليص الصرف على المؤسسات السيادية، ووقف الصرف المبالغ فيه على القطاع العسكري/ا ألمني، الذي يتم على حساب المشاريع المتعلقة بتخفيف أعباء المعيشة على المواطن، وتحويل الفائض لزيادة النفاق على الصحة والتعليم وتوفير مياه الشرب النظيفة والسكان الشعبي.
اصلاح النظام المصرفي واعادة الدور القيادي والرقابي للبنك المركزي، ووضع الائتمان تحت رقابته، واعادة توجيه القروض المصرفية للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة، خاصة القطاعات الحرفية والصناعية والنقل والخدمات.
وضع برنامج اسعافي، بمشاركة العاملين، لعادة الحياة في المشاريع القومية، كمشروع الجزيرة والسكة حديد والنقل البحري والجوي،ووضع خطط استراتيجية للتعامل مع القطاع الزراعي والحيوان كاولوية قصوى، يشارك في رسمها كل أصحاب المصلحة في القطاعين.
اعادة الاراضي الزراعية المنزوعة لأصحابها، ومنع نزع ملكية أراضي المزارعين المتعسرين.
اعادة الحياة للحركة التعاونية، وتقديم دعم خاص لتعاونيات المزارعين.
اصدار قانون تحديد الايجارات للمنازل والاراضي.
اصلاح النظام الضريبي على أساس مبد أ الضريبة التصاعدية. ووضع خطة لجذب الاستثمار الاجنبي في اطار خطط التنمية الوطنية، وعلى أساس اكتفاء رأس المال الاجني بمعدل ربح طبيعي ومعقول.
صياغة قانون جديد للعمل، بمشاركة العاملين والدولة و أصحاب العمل، بهدف التفاق حول شروط خدمة العاملين، والمعاشات، والتامينات الاجتماعية، والرعاية الصحية، وحق تكوين النقابات المستقلة، وحق الضراب.
تحديد الحد الادني ،وأيضًا الاعلى، للأجور وتعديله بالتوازي مع تطّور الاسعار،عبر ألية تضم الدولة والقطاع الخاص ونقابات العاملين.
منح معونة الفقر المدقع (معونة البقاء على قيد الحياة)، وتحدد الدولة والنقابات مع ًا، شروطها وقيمتها ووسائل تمويلها.
مراجعة الاداء المالي لكل مؤسسات الدولة، ووضع ألية فعالة لاسترداد المال العام المنهوب، بما في ذلك الامتيازات والاعفاءات والدعم الممنوح للاستثمارات الخاصة، وشن هجوم على كل بؤر وممارسات الفساد، وتقديم المسؤولين للعدالة.
مراجعة صفقات بيع أراضي الدولة ومؤسسات القطاع العام، مع تحديد القيمة الحقيقية لهذه المؤسسات. مراجعة العقود الممنوحة لشركات استخراج وتسويق البترول والذهب والمعادن االاخري، وكذلك شركات
تسويق الكهرباء والماء، وادخال كل الحسابات في ميزانية الدولة.
ثامنا التعجيل بانطلاق مفاوضات السلام لوقف الحرب الاهلية والتوافق على مشروع سياسي اجتماعي تنموي قومي يحقق السلام ويوّطده عبر تحقيق المشاركة العادلة في السلطة،واعادة النظر في توزيع الثروة وخطط التنمية بما يرفع الجحاف والتهميش عن المناطق المتخلّفة والاقل نمواً في ا الاطراف. وتُمنح الاسبقية في هذا المشروع لمناطق التوتر الاثني والقومي والاجتماعي، وذلك في اطار مشروع اقتصادي تنموي، يسترشد بالخبرة العلمية ومنجزات التجربة الانسانية والمبادئ العامة للعدالة الاجتماعية. والمشروع التنموي القومي ينطلق من عدة مرتكزات، أهمها:
1- مراعاة التوازن الجهوي وحماية الشرائح الاجتماعية الضعيفة، لان ما تعانيه بلادنا من تشويهات هيكلية
كرست امتياز فئات معينة، ومفارقات تنموية بين الاقاليم، واتساع دائرة الفقر...الخ.
قومية كل الثروات الطبيعية في السودان وتوظيفها في تصفية اثار الحرب الاهلية وعلاج مأساة النزوح واللجوء؛ وازالة جذور قضايا التهميش؛ واعادة تعمير وتاهيل الانتاج الزراعي والحيوان والبنية التحتية والتعليم والصحة واقتناء التقنية الحديثة لترقية الصناعة؛ ولمحاربة الاوبئة والزحف الصحراوي وحماية
البيئة...الخ.
3- -توزع عائدات الثروات الطبيعية وفق نسب يُّتفق عليها،مثل نسبة تخصص للميزانية العامة ولخزينة
الدولة، مع التاكيد على المعاملة التفضيلية للمناطق المتاثرة بالحرب والمناطق الاقل نمواً؛ ونسبة تخصيص لميزانية التنمية، مع اعطاء أولوية لمشاريع التنمية في مناطق المعاملة التفضيلية؛ ونسبة تخصص لمناطق التنقيب والاستخراج تستثمر في اصلاح البنية التحتية وخلق فرص عمل وتوفير
الخدمات مثل مياه الشرب النقية والعلاج والتعليم .
8. الخاتمة
أخيراً، تستوجب الفترة الانتقالية الراهنة في السودان، وهي الخامسة في تاريخه، من الجميع من قوى سياسية (مدنية ومسلحة) وقوى مجتمع مدن التعامل معها باعتبارها فترة مصيرية تخاطب جوهر ما يمكن أن يحقّق أمل السودانيين في بناء الدولة السودانية الحداثية والمستقرة. ويضمن النجاح في تنفيذ مهامها الحفاظ على وحدة بلدنا والسير بها نحو مرافئ التقدم والرقي، بينما الفشل هو أساس الحرب ا ألهلية وتفتت الوطن. ومن أكبر مظاهر الفشل، الاكتفاء بقصر التدابير الانتقالية على مجرد التغيير السطحي والشكلي، وحصره في اعادة توزيع كراسي السلطة بين القوى التي كانت تعارض النظام البائد. وأي مشروع للتغيير، كالذي تطمح اليه ثورة الشعب السودان، ل يضع هذه الرؤية نصب عينيه، سيظل مجرد وهم وحرث
في البحر.
صحيح أن ألاوضاع الراهنة في البلد، قد تصيب البعض بالحباط واليأس من أن يتجسد حلم الثورة واقعا، خاصة الذين ظلوا طويلا في انتظار الثورة والتغيير، أو ظنوا أن قطف ثمارهما سيكون صباح الغد. وأعتقد أن حالت الاحباط واليأس المؤقتة، أو التي تصيبنا في لحظة معينة وزمان محدد، متوقعة ومفهومة ومقدرة ما دمنا لم نسقط المبدأ ولم نتنازل عنه. لكن، أن يتملكنا الاحباط مطلقا، فهذا غير مقبول، وهو فالنهاية، حلم ومنى قوى الثورة المضادة و أزلام النظام البائد. لذلك، من الضروري جداً أن يتربّع على رأس الاولويات كيفية دحر الاحباط واستثارة الحماس، ألان حماس الناس،المنظم والواعي، قادر على قلب الموازين في اللحظات التاريخية الحاسمة. وقوى الثورة السودانية، في الدفاع عن ثورتها، أحوج ما تكون الى مثل هذا الحماس وهذا التفاعل، ل حماس فرحة الانتصارات فحسب، بل وحتى دموع الهزائم المؤقتة، من أجل دحر
اللامبالاة، ولرفع رايات الامل وشحذ ارادة مواصلة السير قدما في طريق التغيير، حتى بلوغ غاياته المرجوة. نوفمبر 2022