وحدة الشؤون الافريقية، مركز تقدم للسياسات – لندن بيان موجّه بأكثر من اتجاه:
لا يمكن قراءة البيان الصحفي الصادر عن جمهورية مصر العربية بمناسبة زيارة رئيس المجلس السيادي الانتقالي السوداني الفريق عبد الفتاح البرهان بوصفه موقفًا بروتوكوليًا أو إعلان دعم تقليدي، بل يتعين فهمه كوثيقة سياسية مركّبة تحمل ثلاث رسائل متزامنة: رسالة تطمين للقيادة السودانية الرسمية، ورسالة ردع للقوى المتطرفة داخل معسكرَي الصراع، ورسالة تثبيت للثوابت التي تشكّل، في جوهرها، تعبيرًا عن إجماع قومي سوداني واسع.
جاء البيان في لحظة مفصلية، مع تصاعد الكلفة الإنسانية والعسكرية للصراع، وتكثّف الضغوط الأميركية والدولية للدفع نحو مسار تفاوضي مباشر، في ظل تآكل رهانات الحسم العسكري.
رسالة تطمين للبرهان ودفع نحو المسار التفاوضي:
يشكّل البيان في أحد أبعاده الأساسية رسالة تطمين سياسية واضحة للفريق البرهان، مفادها أن القاهرة تدعم مسار الانتقال من منطق الحرب إلى منطق التسوية، وتوفّر الغطاء الإقليمي والسياسي اللازم لذلك.
تأكيد مصر دعمها لرؤية الرئيس الأميركي دونالد ترامب بشأن السودان، لا سيما فيما يتعلق بإحلال السلام وتجنب التصعيد، يتقاطع بوضوح مع الطرح الأميركي الذي عبّر عنه المبعوث بولس مسعد، والقائم على القبول بالتفاوض المباشر بين البرهان ومحمد حمدان دقلو (حميدتي) باعتباره مدخلًا واقعيًا لوقف الحرب.
في هذا السياق، لا يُفهم البيان بوصفه ضغطًا على البرهان او دعما لاستمرار الحرب، بل ضمانة سياسية بأن الانخراط في التفاوض، حتى المباشر، لا يُعد تنازلًا أو ضعفًا، بل خيارًا مدعومًا إقليميًا ودوليًا، ويحفظ موقع المؤسسة العسكرية السودانية ضمن الدولة، بدل استنزافها في حرب مفتوحة.
رسالة إلى المتطرفين في جانبي الصراع – لا للتقسيم:
يحمل البيان، في مضمونه الصريح، رسالة ردع مباشرة إلى التيارات المتطرفة داخل معسكري الصراع، ولا سيما تلك التي تدفع باتجاه سيناريوهات التقسيم أو تفكيك الدولة، سواء تحت ذرائع عرقية أو جهوية أو سياسية.
التشديد المصري القاطع على:
وحدة السودان،
سلامة أراضيه،
ورفض أي كيانات موازية أو الاعتراف بها،
يمثّل قطعًا للطريق على محاولات استثمار الفوضى لفرض وقائع انفصالية، سواء من داخل الصراع أو عبر داعمين خارجيين. كما يوجّه رسالة واضحة بأن أي مسار تفاوضي أو تسوية مستقبلية لا يمكن أن يمر عبر بوابة التقسيم أو الشرعنة السياسية لسلطات الأمر الواقع.
الخطوط الحمراء المصرية كترجمة لإجماع قومي سوداني:
لا يقدّم البيان الخطوط الحمراء المصرية بوصفها موقفًا أحاديًا أو مفروضًا من الخارج، بل كترجمة سياسية لما يمكن اعتباره إجماعًا قوميًّا سودانيًا عريضًا، يقوم على ثلاث ركائز:
وحدة السودان ورفض التقسيم.
الحفاظ على مؤسسات الدولة، وفي مقدمتها الجيش.
رفض الكيانات الموازية ومنطق الدولة المجزأة.
ويستثني هذا الإجماع، وفق القراءة السياسية للبيان، قلة محدودة من المتشددين الإسلاميين الذين لا يزالون يراهنون على:
استمرار الحرب،
خيار الحسم العسكري،
وإعادة إنتاج دولة ما قبل الانهيار بالقوة.
بهذا المعنى، لا يضع البيان القاهرة في مواجهة المجتمع السوداني، بل في موقع الداعم للتيار الغالب الرافض للتقسيم والمنهك من الحرب.
الرباعية الدولية – غطاء للتسوية لا بديل عن القرار السوداني:
يؤكد تمسّك مصر بالعمل ضمن إطار الرباعية الدولية مقاربة مزدوجة:
توفير غطاء دبلوماسي وإنساني لوقف النار.
منع فرض تسويات قسرية أو حلول تفكيكية.
غير أن البيان يشير ضمنيًا إلى أن المسار التفاوضي الحقيقي يجب أن يبقى سودانيًا–سودانيًا، برعاية دولية، لا وصاية خارجية.
الخلاصة التقديرية
يشكّل البيان المصري وثيقة سياسية متعددة الوظائف، فهو في آنٍ واحد:
رسالة تطمين للبرهان للمضي في مسار السلام والتفاوض، بما في ذلك القبول بالحوار المباشر مع حميدتي وفق الطرح الأميركي.
رسالة ردع للمتطرفين في جانبي الصراع، ولا سيما دعاة التقسيم وتفكيك الدولة.
تثبيت لثوابت وخطوط حمر تعبّر عن إجماع قومي سوداني واسع، يستثني فقط قلة من المتشددين الإسلاميين الذين لا يزالون يراهنون على استمرار الحرب والحسم العسكري.
في المحصلة، لا يعلن البيان تدخّلًا مصريًا مباشرًا، لكنه يرسم بوضوح الإطار السياسي المسموح به، ويمنح مسار التسوية شرعية إقليمية، ويضع حدًا لأي محاولات للانزلاق نحو التفكك أو تدويل التقسيم تحت غطاء الحرب.

