الجميل الفاضل يكتب من نيالا: يوميات “البحير” (13): هذه المدينة، أعجوبة اخري، لا تستطيع أن تموت؟!
هذه المدينة أعجوبة صامدة، لا تموت، بل ربما لا تستطيع أن تموت.
فقد جُرّب فيها كل نوع من أنواع القصف الجوي، وبكل نوع من أنواع الطائرات، التي إستخدمت شتي أنواع القنابل، وأفتك الأسلحة.
مظهر هذه المدينة يعكس الي اليوم صورة حرب عبثية عابرة مرت من هنا، لم تترك سوي بعضا من آثار معاركها الغادرة علي جدران المنازل، وأعالي البنايات، ونواصي الشوارع.
لكن بأمر الطبيعة يبدو أن فصل الخريف سيقول أيضا كلمته الفاصلة، ليفرض وقفا جزئيا أو قل مؤقتا لإطلاق النار.
إذ أن موسم الأمطار في السودان ظل يحد كعادته دائما من نشاط أي معارك برية علي الأرض طوال تاريخ مثل هذه الحروب.
صحيح أن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة، لكن إمطارها أيا كان نوعها في توقيت كهذا، ربما تلبي قسطا من دعوة رمطان لعمامرة المبعوث الشخصي لأمين الأمم المتحدة الذي قال: “إن السودان لا يستطيع تحمُّل يوم آخر من الحرب”.
كل ذلك فضلا عن أنه قد بدا لافتا ما يشبه الغياب التام لمحاولات استباحة الطيران المسير فضاء هذه المدينة كما كان هو الحال قبل حين.
بل وعلي نقيض ما تبثه أبواق الدعاية الحربية للجيش، فإن طيران سلاح الجو نفسه لم يعد قادرا فيما يبدو علي أن يمارس هوايته القديمة في خبز سكان هذه البلدة تحت مساكنهم كديدنه منذ بضعة أشهر تقريبا.
كما بدا الآن، وكأن سكان “البحير” قد باتوا لا يخشون بأسا يأتي من فوقهم، غير قرقعات سحب راعدة ماطرة ظلت تغشي بلدتهم هذه الأيام يوما تلو آخر.
إذ لم يعد يقلق بالهم شيء سوي تطفل الذباب الطائر علي موائدهم بالنهار، وطنين هذا البعوض المتكالب علي أجسادهم الضامرة في الليل.
علي أية حال، رغم انقطاع خدمات الماء والكهرباء والإتصالات، وحصار الكوليرا، الا أن نيالا قد بدأت نوعا من التعافي المتدرج رويدا رويدا باستعادتها لذاكرة القانون.
أفراد شرطة المرور بارديتهم البيضاء صافراتهم المتعالية تقطع ضجيج الركشات والسيارات.
قوة القانون تتقدم بقوة، علي قانون القوة.
المدنيون في الشوارع يستعيدون ثقتهم بأنفسهم وبالحياة عموما.
المدينة تغادر غرفة الانعاش، تستعيد علي نحو ما قدرتها علي التنفس الطبيعي من جديد.
شعورها بالأمان والاطمئنان يتنامي هكذا شيئا فشيئا.