السبت, نوفمبر 8, 2025
الرئيسيةمقالاتالكيزان خارج الحدود.. الرصاص بدلًا عن السبابة

الكيزان خارج الحدود.. الرصاص بدلًا عن السبابة

بقلم: د طارق عبد العزيز مصطفى.أكاديمي سوداني . فرجينيا


في التاريخ الحديث للسودان، لم يكن الخطر يومًا في من حمل السلاح فحسب، بل في من تزيَّن بالدين واتخذ من الخطاب الإيماني سلّمًا إلى السلطة، ومن الشعارات غطاءً للنهب والدم. واليوم، بعد أن انكشفت وجوههم وسقطت أقنعتهم، هرب كثير من هؤلاء الكيزان خارج الحدود، لا طلبًا للعفو أو التوبة، بل هروبًا من مواجهة المرآة.

لكنهم، كعادتهم، لم يصمتوا. عادوا عبر شاشاتٍ مضيئة في الظلام، يحملون حقائب من الأكاذيب القديمة، يطلقون الرصاص من خلف الحدود، بعدما فقدوا حق رفع السبابة في وجوه الناس.
من الخارج، يواصلون الحرب ذاتها — حرب الخداع، والتبرير، والإنكار. يتحدثون عن الحرية وهم من سجنوا الوطن، وعن العدالة وهم من أطفأوا شمعتها الأولى.

هؤلاء الذين يتباكون اليوم على السودان، نسوا أو تناسوا أنهم من أفرغوا خزائنه، وأحرقوا قراه، وملأوا السجون بشبابه.
نسوا كيف جعلوا من المساجد منابر للحزب لا للعبادة، ومن الجامعات ثكنات فكرية، ومن الإعلام آلة تضخّ الأكاذيب باسم الله والوطن.
من أين جاءوا بهذه الجرأة على الوعظ بعد أن خاضوا في الدماء حتى الركب؟

إنّ من خرجوا خارج الحدود لم يغادروها فرارًا من الظلم، بل فرارًا من العدالة. واليوم، يمارسون النفاق ذاته، لكن بلهجة منمقة تناسب الغرباء الذين يأوونهم.
يحاولون إقناع العالم بأنهم “ضحايا” بينما لا تزال دماء ضحاياهم في بيوت الأشباح تشهد عليهم.

لقد علّمونا أن الكلمة أقوى من الرصاصة، لكنهم اختاروا الرصاصة مرة أخرى — رصاصة التحريض والكذب وتزوير الوعي.
يطلقونها من بعيد نحو وطنٍ يحاول أن ينهض من الرماد. وما لا يفهمونه هو أن هذا الوطن لم يعد يصدق الواعظين الذين لبسوا البزة العسكرية حينًا، والجُبّة الدينية حينًا آخر.

التاريخ لا يُكتب بالبيانات، بل بالدماء. ومن كتب صفحة الفساد والاستبداد بثلاثين عامًا من القهر، لا يحق له اليوم أن يتحدث عن الإصلاح.
الذين باعوا تراب الوطن، وملأوا بيوتهم بذهب الشعب، لا يمكن أن يصبحوا دعاةً للوطنية في المنافي.

قد يهربون بأجسادهم، لكنّ جرائمهم تظل داخل حدود الذاكرة:
الاغتيالات، التعذيب، اختفاء الشباب، تصفية الخصوم، سرقة المال العام، واغتيال الضمير الوطني باسم المشروع الحضاري.

وإن كان الله قد منحهم فرصة الهرب، فإنّ التاريخ لن يمنحهم فرصة النسيان.
فالشعوب لا تُشفى من جراحها إلا حين تُسمّي القاتل باسمه، وتمنع الضحية من الموت مرتين: مرة بالرصاصة، ومرة بالنسيان.

الكيزان خارج الحدود اليوم لا يشكلون خطرًا على الجغرافيا، بل على الوعي.
خطرهم في خطابهم، في قدرتهم على إعادة تدوير الأكاذيب بملامح جديدة.
لكنّ السودان الذي كسر أغلال الخوف لن يسمح لهم بأن يطلقوا الرصاص مجددًا، لا من داخل الحدود ولا من خارجها.
فالتاريخ لا يرحم، والذاكرة لا تمحو.

مقالات ذات صلة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

الأكثر شهرة

احدث التعليقات