الإثنين, أكتوبر 13, 2025
الرئيسيةمقالات    دكتور الوليد آدم مادبو يكتب: الوعْي المأساوي: حين يتحوّل الحِداد...

    دكتور الوليد آدم مادبو يكتب: الوعْي المأساوي: حين يتحوّل الحِداد إلى تجارة

    دكتور الوليد آدم مادبو يكتب: الوعْي المأساوي: حين يتحوّل الحِداد إلى تجارة

ليست المأساة في الحرب وحدها، في من يستثمر دماءها ليصنع منها معرضًا للخطابة الرديئة. في لندن، المدينة التي كانت يومًا مرآة المعارضة السودانية، حاولت مجموعة من أنصاف المثقفين أن تعقد ندوة لتسويق الوعي المأساوي — ذاك الذي يصفه الدكتور وجدي كامل، أحد أهم المنتجين للفكر في الساحة السودانية اليوم، بأنه وعيٌ ملوّث بالعجز والحنين، يُحوِّل الكارثة إلى طقس للبطولة الكاذبة.

كانوا يريدون أن يبيعوا للحاضرين روايةً خادعة: أن الحرب ضرورة أخلاقية، وأن الدم طريق إلى الخلاص. لم يقولوا طبعًا إن الطغيان الذي يتباكون عليه هو ذاته الذي أسّس لمعسكرات الموت ومصانع الكراهية، ولا إنّ البنادق التي يقدّسونها اليوم خرجت من رحم النظام الذي أخصب الخراب وزرع الفتنة في كل قبيلة وفي كل مدينة.

المأساة، إذن، ليست في إلغاء الندوة، بل في فكرة قيامها أصلًا.

أسوأ من الحرب، هو أن يتقمّص الجلاد هيئة “المجتمع المدني”، وأن يسرق القتلة لغة النضال ليصنعوا بها غلافًا لجرائمهم. تخيلوا: من موائد السفارات الملوثة ومن أموال الذهب المهرّب، ينهضون ليتحدثوا عن “السلام العادل”، كأنهم قد غسلوا أيديهم من التاريخ. يتكلمون عن العدالة، وهم الذين صفّقوا لدبابات الخرطوم حين داست على الشباب في القيادة العامة. يرفعون لافتة “الوعي”، وهم في الحقيقة وكلاء لخطاب ميت، جثته تتغذى على الأكاذيب.

من المؤلم أن يُساق الوعي السوداني مرةً أخرى إلى المسالخ الرمزية ذاتها التي أقامها الإسلامويون منذ ثلاثين عامًا: لغة تُمجِّد الدم بوصفه فداءً، وتُبرّر القهر باسم الخلاص، وتستدعي أشباح البطولة لتغطية عفن الحاضر.

لقد أُلغيت الندوة التي كان من المزمع قيامها — لكنّها لم تُمحَ بعد من الضمائر. فالإسلاميون لا يحتاجون إلى منابر للعواء؛ يكفيهم أن يظلوا يمشون في دوائر الخراب، يلعقون جراح الوطن ويدّعون أنهم يعملون لمداواتها. والسؤال الآن ليس من ألغى الندوة، بل من سيُلغي هذا النفاق الثقافي الذي يشرعن الموت ويغتسل بلغة المدنية؟

إن “الوعي المأساوي” الذي يروّجون له ليس وعياً بالكارثة، بل استثمارٌ في دموعها؛ تجارةٌ سوداء في عواطف المنفيين، يبيعونها للغرب بوصفها “نضالاً مدنياً” بينما هي، في جوهرها، إعادة إنتاجٍ لمنطق القوة والتسلط باسم الفاشية الوطنية.

غير أنّ المهزلة لم تتوقف عند هذه الجوقة التي كان من المفترض أن تجتمع في لندن، بل امتدّت إلى منصة الدولة نفسها. رأينا رئيس الوزراء كامل إدريس يهتف بحياة الديكتاتور أسياس أفورقي في حضرة الشعب الإريتري، كمن يقدّم الطغيان في ثوب الصداقة، وينحني للجلاد باسم الدبلوماسية.

ذلك المشهد لم يكن زلّة عابرة، بل علامة على انكسار الوعي بين الندوة والمنصّة، بين مثقفين يبرّرون الحرب باسم الخلاص، وحاكمٍ يصفّق للطغيان باسم الدولة. كلاهما ينهل من المستنقع ذاته: مأساةٌ تُباع في قاعة بلندن، ونفاقٌ يُذاع في هتاف بأسمرا. وهكذا يتجلّى «الوعي المأساوي» في صورته القصوى: أن يتحوّل الضمير إلى وظيفة، والكرامة إلى بروتوكول، والذاكرة إلى تصفيقٍ مرتبك تحت شمسٍ باردة.

فالوعي الحقيقي لا يولد في “قاعة أبرار”، ولا في منصّات النفاق السياسي، بل في المقابر التي لم تُحصَ بعد، وفي وجوه الأطفال الذين ينامون على أصوات القصف. وإذا كان ثمة درسٌ من هذه المهزلة المزدوجة، فهو أن أشدّ أشكال الحرب خبثاً هو الحرب التي تُدار باسم الوعي، وأبشع أشكال الوعي هو الذي يُدار باسم البرهان.

ختامًا، هذا المقال يفنّد محاولة استثمار بعض الكتّاب والإعلاميين في “الوعي المأساوي” الذي ولّدته الحرب، بتحويله إلى رأسمال رمزي يخدم رواية الدولة المجرمة التي أشعلت الحرب أصلاً. كما يفضح سرقة مفهوم “المدنيّة” لتجميل خطابٍ دموي، ويكشف كيف تحاول هذه الفئة اللعب على العواطف الغربية بتمثيل دور “الضحية النبيلة”، بينما هم في الحقيقة جزء من ماكينة القهر القديمة.

مقالات ذات صلة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

الأكثر شهرة

احدث التعليقات