الأربعاء, نوفمبر 12, 2025
الرئيسيةاخبار سياسيةفي انتظار الحقيقة – حق الأسر في معرفة مصير أحبائهم( 2).

في انتظار الحقيقة – حق الأسر في معرفة مصير أحبائهم( 2).

كتب :حسين سعد
قضية المفقودين في السودان ليست حديثة العهد، بل تتجذر في تاريخ طويل من النزاعات المسلحة، والصراعات السياسية، والحروب الأهلية التي عانى منها السودان على مدى عقود. منذ الحرب الأولى بين الشمال والجنوب، مرورًا بأحداث دارفور والنزاعات في مناطق النيل الأزرق وجنوب كردفان، وصولاً إلى الأحداث الأخيرة في الخرطوم والمناطق المحيطة، ظل الاختفاء القسري سلاحًا يستخدمه أصحاب السلطة والقوة، فالمفقودون هم أولئك الذين اعتُقلوا تعسفيًا، أو اختفوا خلال النزاعات المسلحة، أو وقعوا ضحايا للخطف، أو تمت تصفيتهم خارج نطاق القانون. هؤلاء الأشخاص لم يكونوا مجرد أهداف عابرة، بل كانوا جزءًا من محاولات السيطرة والتخويف والترهيب، وأحيانًا لمعارضة السلطات القائمة، أو لمجرد الانتماء السياسي أو العرقي أو الاجتماعي، ورغم تعدد أسباب الاختفاء، إلا أن الثابت هو أن كل مفقود يمثل انتهاكًا صارخًا لحقوق الإنسان، وأن استمرار الإفلات من العقاب يشكل تهديدًا للعدالة والمجتمع بأسره. لقد تركت هذه الظاهرة ندوبًا عميقة في النسيج الاجتماعي للسودان، وحولت الكثير من الأسر إلى مجتمعات صغيرة تعيش على انتظار صوت أو رسالة أو دليل على وجود أحبائها.
الأبعاد الإنسانية لقضية المفقودين
المفقودون ليسوا مجرد أرقام، ولا مجرد حوادث إحصائية، بل هم بشر بأحلام، بحياة، بعلاقات أسرية ومجتمعية، بأدوار اقتصادية وثقافية وسياسية. وكل اختفاء يترك أثرًا عميقًا على الأسرة، ليس فقط من الناحية النفسية، بل أيضًا على المستوى الاجتماعي والاقتصادي، الأطفال الذين يفقدون أحد الوالدين يواجهون مستقبلًا مشحونًا بالمخاطر، والنساء اللواتي فقدن أزواجهن أو أقاربهن يعانين من آثار اقتصادية واجتماعية مباشرة، إضافة إلى الألم النفسي العميق. المجتمع بأسره يتأثر، لأن الاختفاء القسري يزرع الخوف، ويُضعف الثقة بين الناس وبين مؤسسات الدولة، ويخلق حالة من عدم الأمان المستمر، ومن الناحية الإنسانية، لا يمكن النظر إلى قضية المفقودين بمعزل عن الحق في الحياة، الحق في الكرامة، الحق في العدالة، والحق في المعرفة. كل غائب يمثل انتهاكًا لهذه الحقوق الأساسية، وكل أسرة تنتظر المعرفة تمثل صرخة مستمرة تطالب بالعدالة والإنصاف.
الحقوق القانونية والدولية
اختفاء الأشخاص قسريًا يعد انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي ومواثيق حقوق الإنسان، بما في ذلك الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، واتفاقية مناهضة التعذيب، واتفاقيات حقوق الطفل والمرأة. السودان، كدولة طرف في بعض هذه الاتفاقيات، مُلزم بضمان حماية حياة الأفراد، ومنع الاختفاء القسري، وملاحقة المسؤولين عنه، العدالة الانتقالية، التي أصبحت جزءًا من النقاش السياسي والقانوني في السودان بعد النزاعات المسلحة، تسعى لإيجاد آليات لفضح هذه الانتهاكات، وتقديم المعتدين للمساءلة، وضمان عدم تكرار الجرائم. وتشمل هذه الآليات لجان الحقيقة، التحقيقات المستقلة، التعويضات، وإعادة الاعتبار لضحايا الانتهاكات، بما في ذلك المفقودون وأسرهم.
البحث عن الحقيقة كواجب إنساني
حق الأسر في معرفة مصير أحبائها ليس مجرد مطلب عاطفي، بل هو حق أساسي من حقوق الإنسان. معرفة الحقيقة تمثل خطوة أولى نحو العدالة، وتساعد الأسر على التكيف مع الواقع، وإنهاء حالة الغموض النفسي المستمر التي تعيشها.
هذا الكتاب يأتي كمحاولة لتوثيق تلك الحقيقة، ليس فقط من خلال سرد أسماء المفقودين، بل عبر تجميع شهادات الأسر، وسرد التجارب الإنسانية التي توضح أثر الغياب على المجتمعات، والجهود المستمرة للبحث عن العدالة، والصعوبات التي تواجهها الأسر في ظل غياب الاهتمام الرسمي، والبيروقراطية المعقدة، وعدم وجود آليات فعّالة للمساءلة.
أثر المفقودين على المجتمع
غياب المفقودين ليس مجرد حدث فردي، بل هو قضية تؤثر في المجتمع بأسره. حين يختفي شخص، يتزعزع شعور الأمان، وتنتشر الشكوك والخوف، وتتعرض الروابط الاجتماعية للتوتر. المفقودون يمثلون غيابًا جسديًا ونفسيًا واجتماعيًا، ويترك اختفاؤهم أثرًا طويل المدى على الأجيال القادمة، ويخلق ثقافة صمت، خوف، ونسيان، يمكن أن تتحول إلى دورة مستمرة من العنف والظلم، إعادة الاعتبار للمفقودين وأسرهم، فضح الانتهاكات، وملاحقة المسؤولين، ليست مجرد مسألة قانونية، بل هي خطوة لإصلاح المجتمع، واستعادة الثقة بين أفراده ومؤسساته، وبناء نسيج اجتماعي متماسك قادر على تجاوز مآسي الماضي.
الغياب والصمود
على الرغم من الألم والمعاناة، تظهر قصص صمود قوية بين الأسر والمجتمعات المتأثرة. فالأمهات والآباء الذين فقدوا أبناءهم، والأشقاء الذين فقدوا إخوة، والأطفال الذين فقدوا والديهم، كثيرًا ما يقفون ضد النسيان، يصرخون في وجه الصمت الرسمي، ويناضلون من أجل الحق في المعرفة والعدالة، هذا الصمود يشكل جزءًا من ذاكرة الأمة، ودرسًا مهمًا في مواجهة الإفلات من العقاب، وفي التأكيد على أن الصمت لا يمكن أن يكون حلاً، وأن العدالة والمساءلة ضرورة لضمان حقوق المستقبل والأجيال القادمة.
الهدف من هذا الكتاب
يهدف هذا الكتاب إلى أن يكون صوتًا للغياب، منصة لتوثيق التجارب الإنسانية، ودعوة للمجتمع السوداني والدولي إلى الانتباه لقضية المفقودين. هو محاولة لتقديم سرد متكامل يربط بين الجانب الإنساني والحقوقي، بين الألم والصمود، بين الغياب والأمل، كما يسعى الكتاب إلى تحفيز النقاش حول آليات العدالة الانتقالية في السودان، وتعزيز الوعي بأهمية كشف الحقيقة، ومحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات، وضمان عدم تكرارها. إنه دعوة لكل من يؤمن بحق الإنسان في الحياة، والحق في الكرامة، والحق في المعرفة، ليكون جزءًا من حركة إنسانية وقانونية مستمرة، تدافع عن حقوق المفقودين وأسرهم.
دعوة للعدالة والمجتمع
في ختام هذه المقدمة، يجب أن نتذكر أن لكل مفقود حق أن يُسمع صوته، ولكل أسرة حق أن تعرف، ولكل مجتمع مسؤولية أن يواجه الظلم، وأن لا يترك الغياب مستمرًا بلا حساب. إن الغياب لا يعني النسيان، والبحث عن الحقيقة ليس مجرد واجب قانوني، بل واجب أخلاقي وإنساني، هذا الكتاب، إذ يوثق المفقودين في السودان، يسعى لأن يكون شاهدًا على الألم، مؤرخًا للوجع، ومُلهمًا للأمل، لتذكير الجميع بأن العدالة لا يمكن تأجيلها، وأن الإنسانية تبدأ من الحق في المعرفة، وتنتهي بمحاكمة الظلم( يتبع)

مقالات ذات صلة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

الأكثر شهرة

احدث التعليقات