في انتظار المعجزة: السودان بين الانهيار والاستغلال
دكتور الوليد آدم مادبو
الدولة السودانية أيلة إلى حالة التفتت الكامل خلال عقد ونيف على الأكثر إن لم تتداركها عناية ظرفية عاجلة. صحيح أن المجتمع الدولي يراقب ويصرّح، لكنه لم يبدُ يومًا في عجلة من أمره. وكأن الخراب، إذا كان يجري بعيدًا عن منابع مصالحه المباشرة، لا يُستدعي طوارئَ ولا استجابة. لكنّ هذه المعادلة قد تتغير. لا لأن الغرب استيقظ فجأة على معاناة السودانيين، أو حدثت له إفاقة روحية، بل لأن خريطة الطاقة العالمية تعيد ترتيب أولوياتها على وقع القلق المتزايد من اشتعال حرب كبرى في الخليج العربي، واحتمال اضطراب إمدادات النفط منه.
لقد أشار تقرير مجلس العلاقات الخارجية (CFR) الصادر في مايو 2025 إلى أن “أي انفجار واسع بين إيران وإسرائيل، سيهدد بشكل مباشر صادرات النفط من الخليج، ويفرض على الولايات المتحدة إعادة النظر في مصادرها البديلة للطاقة.” وفي ندوة مغلقة في جامعة جون هوبكنز هذا العام، قال مستشار الطاقة السابق لوزارة الخارجية الأمريكية: “السودان، رغم الفوضى، يظل من أكثر الدول الأفريقية وعداً بالاستكشاف النفطي، والبحر الأحمر بوابته الجيوسياسية لذلك.”
فمنطقة الخليج – رغم تحالفاتها التقليدية – أصبحت، في نظر كثير من صناع القرار الغربيين، منطقة غير آمنة، ومسألة انفجارها ليست سوى مسألة وقت. الخلاف المتصاعد بين إسرائيل وإيران، والتحرشات الإسرائيلية المتكررة بالمجال السيبراني الإيراني، وردود طهران الانتقامية في البر والبحر، كلها إشارات على هشاشة التهدئة الراهنة.
وبينما يراقب الغرب هذه التحولات، يزداد السودان في نظره “موردًا مؤجلًا”. فرغم الخراب السياسي، تشير تقديرات هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية (USGS) إلى أن السودان يحتفظ باحتياطي نفطي يُقدّر بـ6 إلى 10 مليار برميل، معظمها غير مستخرج، لا سيما في ولايتي شرق دارفور وجنوب كردفان، إضافة إلى إمكانيات واعدة في الحوض الرسوبي للبحر الأحمر.
من هنا، قد تبدأ المراجعة الأمريكية. لا حبًا في السودان، بل حرصًا على أمن الطاقة. وقد يُعاد النظر في الأزمة السودانية ليس بوصفها “حربًا أهلية”، بل كحالة تستحق إدارةً جيوسياسية صارمة تُعيد ضبطها ضمن مشروع إقليمي يتيح استغلال الثروات، ويضمن الاستقرار بالحدّ الأدنى.
لكن محاولة الانتشال هذه أو المعجزة المحتملة تلك لا يجب أن تُقرأ بوصفها خلاصًا، بل بوصفها تدخلًا براغماتيًا، قد يوقف النزيف دون أن يعالج الجرح. فالمعجزة الحقيقية التي يحتاجها السودان ليست في تدخل خارجي يوقف الحرب، بل في نهوض داخلي يعيد تعريف معنى الدولة، ويستعيد مشروعها الوطني من براثن السلاح، والطائفية، والمليشيات، والتبعية.
لقد أصبحت مفردة “الدولة” في السودان مشروطة: إذا كانت ذات جدوى اقتصادية للخارج، تُستبقى تحت الإنعاش، وإذا استُنفدت وظيفتها، تُترك لتتآكل. فكما قال الباحث الأمريكي جيفري هيرتزمان في ورقة لمعهد بروكينغز (2024): “الدول الهشة ليست عبئًا في نظر الرأسمال العالمي، بل احتياطيات طوارئ تُستدعى عند الحاجة، وتُنسى عند الاكتفاء.”
وما يجري في السودان لا يمكن فصله عن هذا التصور. إذ ظلت تُعاد هندسة الإقليم كله ليُدار بأقاليم فرعية، ومليشيات محلية، واقتصادات معولمة خاضعة لمراكز القرار، لا لمجالس الشعب. لذلك، فإن الرهان – إن كان ثمة رهان – يجب أن يكون على وعي السودانيين أنفسهم، لا على حسابات الآخرين. فالدول تُبنى بالإرادة السياسية وبالذاكرة الجمعية، لا بالموازنات الدولية. ومتى ما غابت هذه الإرادة، تحولت الدولة إلى سلعة تنتظر المشترين (الاقتباس ضمنيًا مع التصرف للأستاذ/ضياء الدين محمد أحمد).
وفي هذا السياق، لا يمكن تجاهل المقال الإسرائيلي الذي نُشر يوم 1 يوليو 2025 بصحيفة جيروزاليم بوست، بقلم نيجر إينيس، تحت عنوان: “هل ستتخلّص إسرائيل من البرهان؟”. يصور المقال الجنرال عبد الفتاح البرهان كتهديد وجودي لإسرائيل، ويدعو إلى التخلص منه بـ”وسائل مباشرة أو غير مباشرة”. لكنّ هذا الانقلاب الخطابي لا يعكس تحولًا أخلاقيًا أو وعيًا جديدًا، بل خيبة وظيفية: فالبرهان، الذي سبق لإسرائيل أن تفاهمت معه واحتفت بلقائه مع نتنياهو في عنتيبي (2020)، أصبح في نظرها خادمًا غير كفء سيما أنه قد عجز عن ضبط الفوضى وتأمين الممرات حيث يجري تدوير الذهب واليورانيوم والماس لصالح الأسواق السوداء.
ختامًا، قد تتغير قواعد اللعبة حسب تقديراتي في أي وقت. فحين تدخل الحسابات الاستراتيجية على خط الخرائط المنهارة، تصبح الدولة الفاشلة فجأة محل اهتمام. ويُعاد ترتيب الأولويات لا بناءً على مبادئ العدالة الدولية، بل وفق ضرورات الاستخراج وممرات التصدير. وعندها، قد تبدأ الولايات المتحدة – أو من يوكل إليه الأمر – في صياغة مقاربة مختلفة للسودان: لا تقوم على إدارة الأزمة، بل على فرض تسوية تضمن الاستقرار المؤقت، كشرط مسبق لأي استثمار في الطاقة طويل الأمد.
وفي انتظار معجزة لم تُكتب بعد، يظل السؤال مطروحًا بمرارة: هل نحن في طور الانهيار الأخير؟ أم أن التاريخ سيمنحنا، في لحظة استثنائية، فرصة الإفلات من مخلب الجغرافيا ومصيدة المصالح الكبرى؟