تقرير: حسين سعد
في ظل الحرب المستمرة التي تعصف بالسودان منذ أبريل 2023، وما أفرزته من دمار واسع للبنية التحتية، ونزوح ملايين المواطنين، وإنهيار مؤسسات الدولة، ونهب وتدمير ماتبقي من أصول وممتلكات شيخ المشاريع الزراعية مشروع الجزيرة الذي قضت الحرب علي ما تبقي منه ، تعود إلى الواجهة قضية إنتخابات إتحاد مشروع الجزيرة والمناقل، بوصفها واحدة من أكثر القضايا حساسية وخطورة على الحقوق الاقتصادية والاجتماعية لمئات الآلاف من المزارعين وأسرهم، ويعتبر الحق في المشاركة، والتمثيل العادل، وإدارة الموارد العامة بصورة ديمقراطية وشفافة، يعتبر من الحقوق الأساسية التي كفلتها المواثيق الدولية، وفي مقدمتها العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.،غير أن ما يجري الإعداد له من إنتخابات في مشروع الجزيرة، في هذا التوقيت الاستثنائي، يثير تساؤلات جوهرية حول الشرعية، والنزاهة، وعدالة التمثيل، وحول ما إذا كانت هذه العملية تخدم المزارعين حقاً أم تعيد إنتاج منظومة الإقصاء والتمكين السياسي.
شرعية محل شك في زمن الحرب:
يعتبر شيخ المشاريع الزراعية في السودان : مشروع الجزيرة والمناقل أكبر مشروع زراعي مروي في السودان وأحد أكبر المشاريع الزراعية في إفريقيا، ويمثل لعقود طويلة عماد الأمن الغذائي القومي ومصدر رزق مباشر لمئات الآلاف من المزارعين والعمال الزراعيين، غير أن الحرب الأخيرة أدت إلى نهب واسع لأصول المشروع، وتخريب قنوات الري، وتعطّل الإدارات، ونزوح أعداد كبيرة من المزارعين من قراهم، ما جعل البيئة العامة غير مهيأة لأي عملية تنظيمية أو انتخابية ذات مصداقية، وفي حديثي خلال هذا الأسبوع مع بعض المزارعيين تخوفوا من قيام العملية الانتخابية في ظل هذه الظروف التي تمر بها البلاد من حرب ونزوح وفقر وجوع فضلاً عن أن التحضير لانتخابات الاتحاد يتم في ظل غياب واسع لأصحاب المصلحة الحقيقيين، وهم المزارعون والملاك، نتيجة النزوح وانعدام الأمن.، وقالوا إن قيام هذه العملية يفتقر إلي معايير النزاهة وفق المعايير الدولية للانتخايات الحرة والنزيهة ، وذات مصداقية في ظل انعدام الأمن، وانتشار السلاح، وغياب حرية التنظيم والتجمع، والنزوح الواسع، وانهيار مؤسسات العدالة والرقابة. وفي حالة مشروع الجزيرة، تضاف إلى ذلك مشكلات بنيوية أخرى، من بينها غياب سجل محدث للمزارعين، وإنعدام آليات مستقلة للإشراف، وغياب الضمانات التي تكفل تكافؤ الفرص بين المرشحين، وأشاروا إلي إن
عدد من المزارعين غير قادرين على العودة إلى قراهم وحواشاتهم أو المشاركة في أي نشاط تنظيمي، الأمر الذي يجعل أي انتخابات تُجرى في هذا الظرف ناقصة التمثيل، وتفتقر إلى الحد الأدنى من العدالة والمشاركة، وفي ذات السياق تتهم قوى مزارعية مستقلة ومراقبون هذه الانتخابات بأنها تمثل محاولة لإعادة تمكين قيادات مرتبطة بحزب المؤتمر الوطني المحلول، عبر واجهات تنظيمية ونقابية، مستفيدة من الفراغ السياسي والأمني الذي فرضته الحرب، بجانب حركة العدل والمساواة التي إنتمي لها بعض القيادات السابقة في الحزب المحلبول ، ويرى منتقدو العملية أن هذه الانتخابات تعيد إنتاج تجربة الاتحادات الصورية التي خضعت لعقود لسيطرة السلطة التنفيذية والحزب الحاكم، وكانت أداة لتمرير سياسات أضرت بالمزارعين وأسهمت في تفكيك المشروع وإفقاره، وطالبوا بوقف أي عملية انتخابية في مشروع الجزيرة والمناقل إلى حين توقف الحرب، وتهيئة بيئة آمنة تسمح بعودة المزارعين، وإعادة بناء هياكل المشروع بمشاركة القاعدة الزراعية، وسن قوانين تضمن استقلالية الاتحاد وديمقراطيته، وإخضاع أي عملية انتخابية لرقابة مستقلة وشفافة.
انتخابات في زمن الحرب:
ويحذر خبراء في الشأن الزراعي والحقوقي من أن نتائج انتخابات تُجرى في مثل هذا المناخ ستكون فاقدة للشرعية الأخلاقية والقانونية، حتى وإن اكتسبت شكلاً إجرائياً، ويقول رئيس مجلس إدارة مشروع الجزيرة والمناقل قبل انقلاب أكتوبر، الدكتور صديق عبد الهادي، إن الورشة التي نظمتها إدارة المشروع حول قوانين ولوائح مشروع الجزيرة، بالتعاون مع وزارة العدل، أثارت حواراً واسعاً في وسائل التواصل الاجتماعي، لكنه انتقد بشدة مناقشة قضايا المشروع بمعزل عن أصحاب المصلحة الحقيقيين، وهم المزارعون والملاك، وأكد عبد الهادي أن تغييب المزارعين والملاك عن النقاش حول القوانين يُعد من الأخطاء التاريخية القاتلة التي صاحبت مشروع الجزيرة، مشيراً إلى أن ما يُعرف بقانون 2021 لم يكن قانوناً مُجازاً، بل مجرد مقترح لم يناقشه مجلس الإدارة مطلقاً، ولم يستوفِ شرط المشاركة الواسعة، حيث عُقدت ورشتان فقط بدلاً عن ورش شاملة في كل أقسام المشروع، وأوضح أن مقترح القانون أغفل إصلاحات جوهرية أجازها مجلس الإدارة، من بينها التمييز الإيجابي لأبناء الجزيرة في التوظيف، وتأسيس نظام ضمان اجتماعي للمزارعين، وحماية الأرض وفق القوانين الدولية، وإنشاء مؤسسات اقتصادية تخدم المنتجين، معلناً عزمه نشر كتابه حول حقيقة موقف مجلس الإدارة إعمالاً لمبدأ الشفافية.
إقصاء للمزارعين:

وفي ذات السياق أصدر حزب الأمة القومي بياناً صحفياً حذر فيه من خطورة الانتخابات الجارية، معتبراً أنها لا تمثل إرادة مزارعي الجزيرة، ولا تُعد انتخابات حرة أو نزيهة، لأنها تُدار وفق منظومة قانونية وتنظيمية مختلة تسعى إلى إعادة إنتاج الهياكل التي أسهمت في تدمير المشروع، وأكد الحزب أن العملية الانتخابية تُقصي المزارعين الحقيقيين عبر شروط عضوية غير عادلة، وتُدار في ظل فراغ قانوني وسياسي وغياب كامل للرقابة، وتهدف إلى إنتاج اتحادات موالية تمنح شرعية زائفة للسيطرة على موارد المشروع ومصالحه الاقتصادية، وأوضح الحزب: إن المشاركة في هذه الانتخابات تُقصي المزارعين الحقيقيين عبر شروط عضوية غير عادلة تُغلق الباب أمام أصحاب المصلحة الفعليين، فضلا عن إنها تدار في ظل فراغ قانوني وسياسي، وبمعزل عن أي رقابة أو ضمانات تحول دون توجيهها أو السيطرة عليها، وأوضح الأمة القومي ان الهدف من هذه العملية هو
إنتاج اتحادات موالية لا تمثل المزارعين، ولا تعبر عن قضاياهم، ولا تمتلك القدرة على حماية المشروع أو الدفاع عنه.
فضلا عن إنها -الانتخابات- تمنح شرعية زائفة لهياكل شوّهت المشروع وأسهمت في تدميره، وتعيد تدوير الأزمة الممتدة منذ عقدين من الزمان، وقال الحزب
إن مشروع الجزيرة لا يمكن إنعاشه عبر انتخابات شكلية أو هياكل تابعة، بل من خلال عملية إصلاح شاملة تنطلق من احترام إرادة المزارعين وتمكينهم من أدواتهم النقابية والاتحادية، مؤكداً في ذات الوقت العمل مع
كل القوى الوطنية والمهنية الصادقة لبناء بديل تنظيمي ديمقراطي يحمي المشروع، ويستعيد دوره التاريخي، ويرسّخ حقوق المزارعين على أساس العدالة والشفافية والمساءلة
الخاتمة: فاقدة للشرعية:
(من المحرر)إن إجراء انتخابات اتحاد مشروع الجزيرة والمناقل في ظل الحرب، وإقصاء أصحاب المصلحة الحقيقيين، هي محاولات إعادة تدوير النخب القديمة للنظام السابق عبر بوابة التنظيمات، كما إنها لا تمثل مساراً للإصلاح، بل تكريساً لأزمة بنيوية ممتدة قامت على مصادرة الحقوق وإفراغ المؤسسات من مضمونها الديمقراطي، فالشرعية لا تُستمد من صناديق اقتراع تُنصب في فراغ أمني وإنساني، بل من مشاركة حقيقية، ورضا القاعدة، واحترام الحقوق، وأي محاولة لإعادة ترتيب المشهد الزراعي دون المزارعين أنفسهم، إنما تُعد انتهاكاً صريحاً لحقوقهم الاقتصادية والاجتماعية، ومغامرة بمستقبل واحد من أهم موارد السودان الاستراتيجية،
وفي بلد يسعى للخروج من الحرب وبناء دولة القانون، تبقى العدالة والمشاركة والشفافية هي الأساس لأي عملية انتخابية، لا استثناء فيها لمشروع الجزيرة، ولا تبرير فيها لانتخابات تولد فاقدة للشرعية منذ لحظتها الأولى.

