موكب 30 يونيو: درس سياسي في التغيير الجذري ووحدة الصف الثوري..
تحليل.. حسين سعد
في مسار التاريخ السوداني الحديث، يُعد موكب الثلاثين من يونيو ٢٠١٩م علامة فارقة في مشهد سياسي مضطرب، وصيحة مدوية أعادت ضبط البوصلة نحو تطلعات شعب لم تفتر عزيمته رغم المحن والكوارث. لم يكن ذلك اليوم مجرد تجمع جماهيري أو حدث احتجاجي عابر، بل كان لحظة تجلّت فيها الإرادة الشعبية في أبهى صورها، واختبرت فيها القوى السياسية والعسكرية نبض الشارع، وواجه فيها الفاعلون الجدد والقُدامى اختبارات الشرعية والتمثيل.
الشعب أقوى..
خرجت الجماهير في 30 يونيو لتبعث برسالة صريحة لا لبس فيها: أن الشعب هو الفاعل الرئيسي في معادلة الحكم، وأن تجاوز إرادته لا يمكن أن يمر بلا ثمن خرجت الحشود في الخرطوم وبقية مدن السودان في ظروف معيشية خانقة، لكن رغم ذلك، رفعت شعاراتها بوعي وثبات، تعيد من خلالها تأكيد ثوابت الثورة المتمثلة في “حرية، سلام، وعدالة”، وتدفع ضد كل محاولات اختطاف الحلم أو الالتفاف على المطالب الجوهرية للتحول المدني الديمقراطي.
زخم ثوري..
سياسياً، مثّل هذا اليوم لحظة استعادة للشارع السوداني زمام المبادرة، بعدما ظنّت بعض الأطراف أن تراجع الزخم الثوري يمكن أن يسمح بإعادة صياغة المشهد بعيداً عن رقابة الجماهير. لكن موكب 30 يونيو أعاد خلط الأوراق وأربك حسابات مراكز القوى، سواء كانت داخل المؤسسة العسكرية أو ضمن القوى المدنية المتصارعة على الشرعية التمثيلية. لقد أظهر بجلاء أن الشعب لم يفوّض أحداً ببيع دماء الشهداء أو التنازل عن مطلب الدولة المدنية، ولا يزال حاضراً كقوة ضغط ومساءلة.
كما شكّل الموكب نقطة اختبار حاسمة لمواقف القوى الإقليمية والدولية المتداخلة في الشأن السوداني، والتي تراقب عن كثب توازنات السلطة على الأرض، وتحاول توجيه مسار العملية السياسية بما يخدم مصالحها. لكن الموكب بعث بإشارة واضحة مفادها أن الاستقرار لا يمكن أن يُفرض من أعلى، وأن أي عملية سياسية لا تستجيب لمطالب القواعد الشعبية ولا تضع العدالة والمحاسبة في صلبها، ستظل هشّة وقابلة للانفجار.
حدث سياسي..
في ضوء كل ذلك، فإن تحليل موكب 30 يونيو لا يمكن أن يُختزل في أعداد المتظاهرين أو تفاصيل الشعارات، بل يجب أن يُقرأ كحدث سياسي كثيف الدلالة، يحمل بين طياته تحولات نوعية في المزاج الشعبي، ورسائل استراتيجية موجهة إلى كل من يعنيهم الأمر: من العسكر، إلى الأحزاب، إلى المجتمع الدولي. إنّه يوم اختزل صراع الرؤى، وعبّر عن حدود الممكن، وأعاد طرح السؤال الجوهري: من يملك الشرعية في السودان؟ وهل يمكن تجاوز الشعب مرة أخرى دون دفع الثمن؟ وفي تاريخ الأمم والشعوب، تتشكّل محطات فاصلة تُعيد صياغة مسار الأحداث وتدفع عجلة التاريخ إلى وجهات غير متوقعة، وموكب 30 يونيو في السودان يمثّل واحدة من هذه المحطات الفارقة في مسار الثورة السودانية المعاصرة. لم يكن هذا الموكب مجرد خروج جماهيري عابر أو تعبير موسمي عن السخط الشعبي، بل كان تجليًا عميقًا لإرادة شعبية واعية، مصمّمة على تصحيح المسار الثوري واستعادة روح ديسمبر التي كادت أن تندثر في زحمة الصفقات، والتسويات الهشة، وتحالفات الهروب إلى الأمام.
محطة مفصلية..
لقد جاء موكب 30 يونيو في لحظة مفصلية من عمر المرحلة الانتقالية، وسط سياقات سياسية وأمنية واقتصادية شديدة التعقيد، وأوضاع تداخل فيها العجز المؤسسي مع الفساد البنيوي، وتنامت خلالها خيبات الشارع من قوى كانت شريكة في الحراك الثوري لكنها تحوّلت، تدريجيًا، إلى جزء من منظومة المصالح. ففي وقت بدا فيه أن جذوة الثورة قد خبت، وأن الجماهير انسحبت إلى هامش الفعل السياسي، أعاد موكب 30 يونيو بوصلة الصراع إلى أصلها: صراع بين مشروع مدني ديمقراطي تحمله القواعد الشعبية، ومشروع عسكري سلطوي يسعى للتمكين والهيمنة بواجهات متعددة، منها الانقلابات، ومنها التسويات السياسية الملفقة.
وقد شكّل هذا الموكب، من حيث الحجم والتنظيم والشعارات والمطالب، نقلة نوعية في مسار الحراك الشعبي، حيث وحّد الشارع الثوري خلف مطالب واضحة، أبرزها رفض الشراكة مع العسكريين، والمطالبة بتفكيك بنية الدولة العميقة، وتحقيق العدالة الانتقالية، ومحاسبة مرتكبي الجرائم بحق المتظاهرين السلميين. كما عبّر عن رفض قاطع لمحاولات الالتفاف على روح الثورة باسم الواقعية السياسية أو الاستقرار الزائف.
سياسيًا، كشف موكب 30 يونيو عن عمق التصدع بين قوى الثورة، التي لاحقا انقسمت وخرج بعضها من قوى الحرية والتغيير التي نفسها تقسمت الي تقدم وصمود بينما اختارت بعض الحركات المسلحة الوقوف الي جانب العسكر وآخرين خرجوا من تقدم إلى تأسيس بينما ظل الحزب الشيوعي في موقفه مع قوى التغيير الجزري.. وأعاد رسم حدود الفرز بين القوى المدنية التي تتبنى مشروع التحول الديمقراطي بصدق، وتلك التي ارتهنت مصالحها مع الأجهزة العسكرية أو تورّطت في المحاصصة والمحسوبية. وبهذا المعنى، لم يكن الموكب مجرد احتجاج على الواقع القائم، بل كان إعلانًا جديدًا لميلاد كتلة شعبية ثورية أكثر وعيًا، قادرة على صياغة معادلة التغيير من الشارع، لا من قاعات التفاوض.
عملية ممتدة..
إن القراءة المتأنية لموكب 30 يونيو تضعنا أمام حقيقة أن الثورة السودانية لم تكن لحظة انفعالية انتهت بإسقاط رأس النظام في 11 أبريل 2019، بل هي عملية ممتدة ومركبة، تتطلب يقظة جماهيرية دائمة، وضغطًا متواصلًا لتأمين التحول الديمقراطي. وقد أعاد هذا الموكب التذكير بأن الشارع ما يزال هو اللاعب الأهم في المعادلة، وأن محاولات تهميشه أو تحييده لن تؤدي إلا إلى مزيد من التأزم والانفجار.
ومن هنا تنبع أهمية هذا الموكب كعلامة فارقة في مسار الثورة السودانية، ليس فقط بما أحدثه من زخم لحظي، وإنما بما أسس له من مواقف مبدئية، وموازين قوى جديدة، وعودة الروح إلى الحراك الشعبي في مواجهة مشاريع الردة والانقضاض على ما تبقى من مكتسبات ديسمبر.
لقد فرض موكب 30 يونيو نفسه، لا بوصفه فقط تعبيرًا جماهيريًا احتجاجيًا، بل كأداة ضغط سياسي غيّرت قواعد اللعبة، وأجبرت القوى الفاعلة، محليًا وإقليميًا ودوليًا، على إعادة النظر في تقديراتها تجاه طبيعة الحراك في السودان. فالقوى العسكرية التي كانت تراهن على حالة التراخي الشعبي، وعلى تآكل الذاكرة الثورية، وجدت نفسها فجأة أمام شارع متقد، يملك زمام المبادرة، ويرفع شعارات راديكالية تجاوزت كل محاولات الالتفاف والترويض. أما القوى السياسية المدنية المترددة أو المساومة، فقد واجهت في هذا الموكب لحظة الحقيقة، حين أدركت أن الشارع لم يعد يمنحها تفويضًا مطلقًا، وأن عليهّا أن تختار بين الانحياز لمطالب الجماهير أو السقوط في هوة العزلة واللاشرعية الثورية.
نقطة تحول..
كما أن لهذا الموكب بُعدًا رمزيًا عميقًا، فقد جاء في ذكرى خروج الملايين في 30 يونيو 2019، الذي شكّل نقطة تحول كبرى في مسار الثورة بعد مجزرة فض الاعتصام، وأسهم وقتها في الضغط لتوقيع الوثيقة الدستورية. ولكن على عكس السياق السابق، فإن موكب 30 يونيو 2021 (وما تلاه من مواكب لاحقة)، جاء محمّلاً بنقد عميق للتجربة الانتقالية نفسها، ومعبرًا عن تجاوز الجماهير لمرحلة “شراكة الضرورة”، ومطالبتها ببناء سلطة مدنية خالصة، تنبع من القاعدة، وتحاسب لا تساوم، وتقطع مع منطق الإفلات من العقاب.
وقد حملت شعارات الموكب دلالات مهمة، سواء في وضوحها أو في طابعها الثوري الجذري. فقد تم تجاوز لغة العموميات والمجاملات السياسية، إلى خطاب ثوري مباشر، يطالب بالسلطة المدنية الكاملة، ويضع قادة العسكر موضع الاتهام لا الشراكة. كما عبّر الموكب عن وعي شعبي متقد، رفض تحويل مطالب العدالة إلى بنود مؤجلة في جداول التفاوض، ورفض كذلك أن تتحوّل الثورة إلى صفقة بين النخب.
المقاومة الجماعية..
أما على صعيد البنية الاجتماعية للحراك، فقد مثّل موكب 30 يونيو نقطة التقاء نادرة بين قطاعات واسعة من المجتمع السوداني، من الشباب في الأحياء، إلى لجان المقاومة، إلى النساء، إلى النازحين والمتأثرين بالحرب، وحتى بعض النقابات والكيانات المهنية التي بدأت تستعيد دورها التاريخي. وبهذا، ظهر الموكب كتعبير حي عن روح المقاومة الجماعية، التي رفضت أن تستسلم للتعب أو الإحباط، رغم عنف الواقع ووطأة الانقسامات السياسية.
ومن اللافت في هذا السياق، أن موكب 30 يونيو لم يكن يتغذى على الشعارات فقط، بل استند إلى تنظيم دقيق من لجان المقاومة، التي نجحت في تجاوز كافة محاولات القمع، وأثبتت قدرتها على الحشد والتعبئة وفرض خطابها الخاص على الأجندة السياسية. لقد برزت هذه اللجان ليس فقط كأدوات مقاومة ميدانية، بل كفاعل سياسي بديل يعبّر عن قوى التغيير الحقيقية، وينافس النخب التقليدية في تمثيل الثورة.
الثورة مستمرة..
وفي المجمل، فإن موكب 30 يونيو في السودان يمكن اعتباره لحظة سياسية تأسيسية جديدة، أكدت على أن الثورة ما زالت مستمرة، وأن الجماهير قادرة على إعادة صياغة المعادلات كلما شعرت بأن مكتسباتها في خطر. كما أنه أرسل رسالة واضحة مفادها أن الشرعية الثورية لا تُمنح إلى الأبد، بل تُنتزع وتُجدد في الميدان، وأن أي محاولة لتجاوز الجماهير أو الالتفاف على إرادتها، مصيرها الفشل.
إذاً، لم يكن الموكب مجرد لحظة احتجاج عابرة، بل كان بمثابة “استفتاء شعبي” حي على مسار الثورة، وموقف صريح من القوى الحاكمة، ومن مسار التسوية السياسية، ومن حالة الانقلاب الزاحف على طموحات السودانيين. وقد تكون هذه اللحظة بداية موجة جديدة من الوعي الثوري والتنظيم الشعبي، الذي يعيد الاعتبار لفكرة التغيير الجذري، القائم على بناء سلطة مدنية شعبية، لا تعترف بالتحالفات الهشة، ولا تقايض الدماء بالصفقات.
الفعل الثوري..
لقد جاء موكب 30 يونيو كتجسيدٍ حقيقي لوعي سياسي متقد تجاوز مرحلة الانتظار والتعويل على المبادرات النخبوية، ليؤكد بأن أدوات الفعل الثوري لا تزال في أيدي الشعب، وأن الشارع قادر على فرض أجندته متى ما توفرت الإرادة والتنظيم. وهذا ما أكده اتساع رقعة المشاركة الجغرافية، حيث لم يقتصر الحراك على العاصمة الخرطوم، بل تمدد إلى مدن عديدة في الأقاليم، من عطبرة إلى مدني، ومن القضارف إلى بورتسودان، في تأكيد على وحدة الوجع الوطني ووحدة المطالب الثورية، رغم محاولات تفكيك البلاد سياسياً وجهوياً.
ولعل أحد أبرز آثار موكب 30 يونيو يتمثل في إعادة ترتيب أولويات الخطاب السياسي السوداني، الذي كان قد انشغل آنذاك بلعبة التوازنات، وانصرف عن القضايا الجوهرية التي خرج من أجلها الشارع في ديسمبر 2018، مثل العدالة، والسلام الحقيقي، وإصلاح الاقتصاد، ومحاربة الفساد، وتصفية أجهزة القمع. أما بعد هذا الموكب، فقد أصبح من الصعب على أي طرف سياسي، مدنيًا كان أو عسكريًا، أن يدّعي تمثيل الثورة أو التحدث باسم الشارع، دون أن يواجه بامتحان الشرعية الشعبية في الميدان.
قمع مفرط..
وقد واجه هذا الموكب، كما المواكب التي سبقته ولحقته، آلة قمع عنيفة، سقط خلالها شهداء وجرحى، في تأكيد إضافي على أن أجهزة الدولة، حتى بعد سقوط البشير، ما زالت رهينة لعقلية أمنية لا تؤمن بالتحول الديمقراطي، وتتعامل مع الاحتجاج السلمي كتهديد وجودي لا كمطلب دستوري. هذا العنف أعاد تسليط الضوء على الحاجة العاجلة لإصلاح الأجهزة الأمنية، وإعادة هيكلتها على أسس مهنية ووطنية، لا على قواعد الولاء السياسي أو الانتماء العقائدي.
من ناحية استراتيجية، فقد غيّر الموكب موازين القوى في المشهد السياسي، ودفع الكثير من الفاعلين الدوليين والإقليميين إلى مراجعة تصوراتهم حول إمكانية “استقرار السودان” في ظل الشراكة بين المدنيين والعسكريين. فقد تبين لهؤلاء أن أي تسوية لا تحظى بقبول شعبي حقيقي، ولا تستجيب لمطالب الشارع، لن تؤدي إلا إلى مزيد من الانسداد والتوتر. وهنا تبرز أهمية الموكب في استعادة الصوت الشعبي كمصدر شرعية رئيسي، ليس فقط أمام القوى المحلية، بل أمام المجتمع الدولي كذلك.
أما الأثر الأعمق للموكب، فهو نفسي وروحي، حيث أخرج الجماهير من حالة الإحباط والخمول السياسي، وأعاد لها الثقة في قدرتها على التغيير، وعلى فرض مسار ثوري بديل. لقد أعاد 30 يونيو المعنويات العالية إلى لجان المقاومة، ومهّد لبروز خطاب أكثر وضوحًا واستقلالية، يرفض الوصاية السياسية، ويضع سقفًا عاليًا لا يمكن التنازل عنه في قضايا مثل العدالة، والقصاص، والسلطة المدنية، والمحاسبة.
إن موكب 30 يونيو لم يأتِ كرد فعل عفوي، بل كان حصيلة لتراكمات واحتقانات سياسية واقتصادية واجتماعية، غذّتها سياسات التجاهل، وضعف الإرادة الإصلاحية، وغياب الرؤية الواضحة في إدارة المرحلة الانتقالية. وبالتالي، فإن التعامل معه كحدث استثنائي معزول سيكون خطأً سياسيًا فادحًا. على العكس، يجب فهمه كسياق كاشف لأزمة السلطة، وأزمة القيادة، وأزمة النموذج الانتقالي الذي حاول أن يجمع بين متناقضات لا يمكن أن تتعايش في مشروع تغيير حقيقي.
إن موكب 30 يونيو، بما مثّله من زخم شعبي وروح ثورية عالية، قدّم جملة من الدروس والعبر للقوى السياسية في السودان، لعل أبرزها أن الإرادة الجماهيرية لا يمكن تجاوزها أو الالتفاف عليها، وأن أي مشروع وطني للتغيير الحقيقي لا يكتب له النجاح ما لم يكن منبثقًا من الشارع، ومعبرًا عن تطلعاته وأشواقه. لقد أثبتت هذه المحطة التاريخية أن الشعب السوداني، رغم الجراح، لا يزال متمسكًا بشعارات ثورته: حرية، سلام، وعدالة، وأنه على استعداد للدفاع عنها، مهما بلغت التضحيات.
الخاتمة..
وفي قلب هذا الدرس العميق، تتجلى دعوة واضحة وصريحة للقوى السياسية المدنية بضرورة تجاوز خلافاتها الضيقة، وتصفية حساباتها الحزبية، والارتقاء إلى مستوى تطلعات الشعب. فاللحظة التاريخية لا تحتمل مزيدًا من التشرذم والتنازع على المواقع، بل تتطلب وحدة الصف الوطني، وتنسيق الجهود بين كل المؤمنين بالتحول المدني الديمقراطي، من أجل بناء جبهة سياسية موحدة، قادرة على مواجهة قوى الردة والانقلاب، واستعادة المسار الثوري.
إن توحّد القوى السياسية على برنامج حد أدنى من الأهداف، مستلهم من مطالب الشارع ولجان المقاومة، لم يعد خيارًا أخلاقيًا فحسب، بل أصبح شرطًا موضوعيًا لإنقاذ ما تبقى من مكتسبات ثورة ديسمبر، ولتأسيس دولة القانون والمؤسسات والعدالة الاجتماعية. وإن أي تلكؤ في هذا التوحد، أو استمرار في لعبة التحالفات الانتهازية، لن يؤدي إلا إلى المزيد من الانتكاسات، وربما ضياع الفرصة التاريخية الأخيرة لبناء سودان جديد، حر وديمقراطي ومتعدد.
وحدة قوى التغيير هي الضمانة الوحيدة لتحقيق حلم السودانيين في وطن يسع الجميع. فلتكن هذه اللحظة محطة للمراجعة والتجديد، ولتضع القوى السياسية الوطنية مصلحة السودان فوق الحسابات الحزبية، ولتنطلق من جديد على قاعدة التواضع أمام تضحيات الجماهير، والوفاء الصادق لشعارات ثورة ديسمبر المجيدة.
إن الاستفادة من دروس موكب 30 يونيو لا تعني فقط استحضار رمزية الحدث، بل تعني – قبل كل شيء – تحويل طاقته الجماهيرية إلى برنامج عمل سياسي ناضج، يتجاوز الخطابات الشعاراتية، ويؤسس لمسار جديد في الممارسة السياسية السودانية. لقد قال الشارع كلمته بوضوح، وأعلن رفضه القاطع لكل أشكال الشراكة مع العسكر، ولكل محاولات تقنين الانقلابات أو تجميلها بمساحيق التسوية، كما أكد أن التغيير الجذري لن يُصنع إلا بأدوات جديدة، وبقيادات جديدة، تنبع من رحم الشارع وتعبر عن همومه لا عن مصالح الصفوة.
وهو ما يضع القوى السياسية، بكل أطيافها، أمام اختبار تاريخي: إما أن تتحمّل مسؤولياتها الوطنية، وتشرع فورًا في بناء جبهة مدنية واسعة، قائمة على أسس شفافة وديمقراطية، تُعيد الاعتبار لمطالب الثورة، وتُرتب أولويات المرحلة من جديد على قاعدة تحقيق العدالة، وتصفية تركة النظام البائد، وبناء مؤسسات ديمقراطية فعلية؛ وإما أن تواصل الدوران في فلك الانقسامات والمساومات والمواقع، وتدفع بذلك البلاد نحو مزيد من التأزيم والانسداد وربما الفوضى الشاملة لا خلاص دون وحدة حقيقية لقوى التغيير، وأن تشظي الجبهات المدنية هو أكبر هدية تُقدّم للثورة المضادة. وهذه الحقيقة البسيطة، والمؤلمة في آن، تستدعي من الجميع التواضع السياسي، والتخلي عن منطق الإقصاء والاستعلاء، لصالح ميثاق وطني جديد، يُعيد بناء الثقة بين الجماهير والقوى التي تدّعي تمثيلها، وينبني على قيم الشفافية والمحاسبة والتمثيل الحقيقي.
إن فشل الفترة الانتقالية السابقة، رغم طموحاتها الكبيرة، لم يكن سببه الوحيد تدخل العسكريين، بل أيضًا تشرذم القوى المدنية، وتنازعها على السلطة قبل أن تُستكمل مهام الثورة. واليوم، فإن الفرصة ما تزال قائمة لتصحيح هذا المسار، ولكنها لن تنتظر طويلاً. فالشعب الذي خرج في 30 يونيو، كما خرج في ديسمبر، قادر على أن يواصل الضغط، وربما يعيد ترتيب الساحة السياسية من جديد، إذا لم يشعر بأن من يمثلونه يستحقون ثقته.
وعليه، فإن الوفاء لشهداء الثورة، ولموكب 30 يونيو، لا يكون بتكريم الذكرى أو بإطلاق الشعارات فحسب، بل ببناء واقع جديد، يحفظ تضحياتهم ويحقق تطلعات الأحياء منهم. ولتكن هذه الخاتمة نداءً صادقًا لكل من لا يزال يؤمن بالثورة:
توحدوا، فالوطن يئن، والثورة تنتظر منكم الوفاء، والشعب لن ينتظر إلى الأبد.