بقلم:حسين سعد
رحلت عنا اليوم الشاعرة والأستاذة ربيعة حسن هرون التي كانت تمشي على الأرض بخفّة القصيدة، وتُمسك اللغة كما تُمسك الأمُّ كفَّ طفلها، كانت حتي رحيلها (ربيعة ) إمرأة إختارت أن تكون إنسانًا قبل أي صفةٍ أخرى، وأن تكون صادقة مع نفسها ومع الناس ومع الكلمة، اليوم رحلت شاعرةٌ ومدققة لغوية، لكن الحقيقة الأعمق أنها رحلت روحٌ شفيفة، عرفت كيف تُصغي أكثر مما تتكلم، وكيف تحب أكثر مما تشتكي، وكيف تقف بثبات في وجه الظلم، حتى وهي تبدو هادئة، قليلة الضجيج، بعيدة عن الأضواء، كانت من أولئك الذين لا يلفتون الانتباه بصخبهم، بل بحضورهم، حضورٌ يشبه الظلّ الوارف، لا يُرى كثيرًا لكنه يمنح السكينة لمن يجلس تحته ، في صحيفة الميدان حيث تعمل مدققة لغوية عاشت الراحلة حياةً موازية لا يعرفها إلا من اقترب منها، كانت المصححة اللغوية التي لا تتعامل مع النصوص كأخطاءٍ يجب شطبها، بل ككائناتٍ حيّة تستحق العناية والاحترام، كانت تؤمن أن اللغة ليست زينةً، بل عدالة، وأن الخطأ اللغوي قد يكون أحيانًا ظلمًا للفكرة أو تشويهًا لصوت الكاتب، لذلك كانت تُصلح النص بحب، وتعيد له كرامته، دون أن تجرح صاحبه أو تتعالى عليه، قليلون هم من يملكون هذه الأخلاق المهنية النادرة: أن تكون صارمًا مع اللغة، ورحيمًا مع البشر في آنٍ واحد.
أما في الشعر، فقد كانت شاعرةً لا تصرخ، لا تتباهى، ولا تُكثر من النشر، لكنها حين تكتب، تترك أثرًا يشبه الندى على قلبٍ متعب، قصائدها لم تكن إستعراضًا لغويًا، بل بوحًا هادئًا، عميقًا، يعرف طريقه إلى الأرواح التي أرهقها العالم. كانت كلماتها تشبهها: صادقة، غير متكلّفة، تحمل وجعًا إنسانيًا شفيفًا، وأملًا عنيدًا لا ينكسر، عُرفت الراحلة (ربيعة ) بهدوئها، لكنها لم تكن حيادية، كانت قليلة الكلام، لكنها لم تكن صامتة عن الحق، كانت قليلة الشكوى، لكنها لم تكن متقبلة للظلم، كانت تقف بوضوح إلى جانب البسطاء، المهمشين، المنهكين من قسوة الحياة لاسيما النساء والأطفال وكبار السن وذوي الاحتياجات الخاصة ، لم تكن خطيبًا مفوهًا ولا ناشطة صاخبة، لكنها كانت جسورة في مواقفها، شجاعة في انحيازها، تعرف أن الوقوف ضد التسلط لا يحتاج دائمًا إلى رفع الصوت، بل إلى ثبات الضمير.
كانت ترسل كل صباح عندما تكتب نصاً شعرياً تحت عنوان (صباحيات.. سلام للفضاءات الرهقة)
سلام لألوان صديقتي الوردة.. سلام لعطاء الشروق المترف سطوع.. سلام لأجنحة عصافير النوافذ الضاحكة.. سلام لمسامرة نجمة السعد مع حبيبها السنا.. سلام لعطب بريق عيون المدن اليباب.. سلام لأدمع مرقد طفلتي التائه.. سلام للأصدقاء في غور المنافي الصاخبة عناء.. سلام لصوت أمي اللاهث لحضن الأمكنة والذكريات.. سلام لهدهدة النهر الأزرق ممازحاً شاطيء الأغنيات.. سلام أخضر للأوفياء سلاااام ناصع لذاكرة وطني اليباب ، أما اخر نص أرسلته لي كان بعنوان (صباحيات.. صباح مغرد)
يا زورق التغريد خذ عن الأكتف رهق أمسيات الأمس ودع الأزرق ينثال بين الأمزجة المكتوفة، فالأمسيات رفيقة كؤوس الأمنيات، وحدقات الرؤى في انتظار تناثر ضوئك المهووس بمعزوفة ترانيم الحياة. يااا زورق خذ عنا عناء خطواتنا الملتصقة بقهر المسافات الممهورة بصوت البندقية، خذ عنا رشح آهات مصافحة الأوفياء الممتشقون شوقاً لعيون المدن التي أصابها داء الخواء…
أيها الزورق النبيل ففي طيات الأزرق أحمل معزوفة البقاء وحلم أمنياتٍ مسروقة، وخط على مسامنا هكذا أحفورة (هؤلاء من يحبون الحياة)
كانت الراحلة ربيعة ترى في الإنسان قيمةً عليا، لا تُقاس بالمكانة ولا بالمنصب ولا بالشهرة. لهذا أحبت الناس البسطاء، ودافعت عنهم كما تدافع الأم عن أبنائها، بلا منّة ولا انتظار مقابل، كانت تغضب بصمت، وتقاوم بصبر، وتكتب — حين تكتب — وكأنها تؤدي واجبًا أخلاقيًا تجاه العالم، في حياتها اليومية، كانت عطوفة، حاضرة للآخرين، تمنح من وقتها واهتمامها دون حساب. لم تكن ممن يملؤون المجالس كلامًا، لكنها كانت حين تتكلم، تقول ما يجب قوله. وحين تصمت، يكون لصمتها معنى. كثيرون مرّوا بها في لحظات ضعفهم، فوجدوا فيها أذنًا صاغية، وقلبًا واسعًا، ونصيحة صادقة لا تُشعرهم بالدونية ولا بالشفقة، رحيلها خسارة فادحة للغة، وللصحافة، وللشعر، لكن الخسارة الأكبر هي في غياب هذا النموذج الإنساني النادر: امرأة تجمع بين الرقة والشجاعة، بين التواضع والصلابة، بين الجمال الأخلاقي والالتزام العميق بقضايا الناس. في زمنٍ يعلو فيه الضجيج وتختلط فيه القيم، كانت هي تذكيرًا حيًا بأن النبل ممكن، وبأن الكلمة يمكن أن تكون نظيفة، وبأن الانحياز للحق لا يحتاج إلى قسوة.
نودّعها اليوم، ونعرف أن ما تركته في القلوب لن يرحل. ستبقى في النصوص التي صحّحتها دون أن تضع اسمها، وفي القصائد التي كتبتها ووزعتها كالهدايا، وفي المواقف الصغيرة التي صنعت فرقًا كبيرًا في حياة الآخرين. ستبقى في ذاكرة زملائها مثالًا للمهنية الصادقة، وفي ذاكرة أصدقائها إنسانةً يمكن الاعتماد عليها، وفي ذاكرة القرّاء روحًا مرّت من هنا وتركت أثرًا جميلًا
وكان المحامي الضليع عمر سيد أحمد قد كتب عنها بقوله : يا لهول الفجيعة الزميلة والرفيقة ، الكنداكة والشاعرة الاستاذة ربيعة حسن هارون، التى رحلت عن دنيانا اليوم دون وداع وهى تحلم بوطن حدادي مدادى ، وطن الحرية والسلام والعداله، صاغت ذلك شعرا ونثرا ، والتزاما وثبات، مناضلة جسورة ترافقنا فى الدروب العصية سنيناً عدداً، صاحبة الابتسامة والروح التى تحتوى كل المصاعب والجراح ، قبل فترة هاتفتنى وزوجها عصام الدين متفقدة اخبارنا ونحن فى تيه المنافى فأحيت فينا ذكريات الصبر حين عز الصبر حملت عنا فى سنوات عجاف تسنتمت فيها عصبة الكذب البواح والهوس أمر هذا الوطن ، فترة التسعينات والبطش والاعتقال والقتل عنوان نكبتنا، تحملت عبء تنوء به الجبال ، حيث كانت تقوم على طباعة وتصميم كل منشورات الجبهة الديمقراطية للمحامين السودانيين فى ذلك الزمن الصعيب،لم ينل من عزمها خوف او وجل، ويضيف عمر سيد احمد : وعند عودة صحيفة الميدان لعلانيتها كان لها قصب السبق فى العمل بين فريقها ، ولم تتوانى يوما فى التزامها، واحبت الحزب الشيوعى السودانى، وكانت أشعارها رسالة للمستقبل لسودان الحرية والعدالة الاجتماعية والسلام، لم تقف مكتوفة الايدى بعد الثورة ساهمت من اجل منطقة الخرطوم ٣ فى الخدمات والتغيير، توهجُ من نشاط لايعرف الكلل، وداعا فى الخالدين والعزاء للزملاء/ ت رفقاء الدروب الوعرة ولاسرتها زوجها / عصام الدين محمد احمد واخوتها أ.
على واميرة وايمان ورشا وكل الاهل وعارفى فضلها
رحمها الله رحمةً واسعة، بقدر ما أعطت دون ضجيج، وبقدر ما أحبّت دون شروط، وبقدر ما وقفت بشجاعةٍ هادئة إلى جانب الحق. العزاء ليس في الكلمات، فالكلمات تعرفها جيدًا، بل في أن نُكمل الطريق الذي آمنت به: طريق الكلمة المسؤولة، والضمير الحي، والانحياز الدائم للإنسان

