ألغام الموت في تراب السودان، تنثر رعبها وسط المدنيين !!
تقرير: حسين سعد
حين تسكت المدافع، لا يسكت الموت في السودان، لا ينتهي الخطر بإنتهاء المعركة، بل يبدأ فصلٌ أكثر قسوة، وأكثر صمتاً، فالألغام والذخائر التي تخلّفها الحرب، لا تفرّق بين عسكري ومدني، ولا تعرف طفلاً من مقاتل، تظل – الالغام – مدفونة في التراب، تنام تحت أنقاض البيوت، أو على أطراف الطرقات، وتنتظر من يخطو فوقها، ليوقظها بانفجارٍ، لا يُبقي من الجسد، إلّا الحُطام، ولا من الأحلام، إلّا الرماد.
يذهب الأطفال إلى مدارسهم، أو يبحثون عن لعبٍ صغير بين الركام، فلا يعودون، يعود بدلاً عنهم الصراخ، والأجساد المحروقة، والدموع التي لا تمسحها حتى مواساة الزمن… كل لغمٍ في السودان اليوم، هو فخ للمستقبل، طعنة في ظهر الأمل، ورسالة بأن الحرب لا تنتهي عندما يُوقَّع وقف إطلاق النار، بل عندما يُرفع آخر لغم من تحت التراب… إن بقاء الألغام في أرض السودان، هو إستمرار للحرب، بأشكال أبشع، وإن لم تُبادر الجهات الدولية، والمحلية، إلى تطهير الأرض، من هذه “القنابل” الصامتة، فستظل الطفولة مهددة، والزراعة مشلولة، والعودة إلى الديار ضرباً من المقامرة بالحياة، ولحين ذلك، سيظل الخوف، رفيق كل خطوة، وستبقى الأرض، بكل ما فيها، تئن من جراح، لا تراها العيون، لكنها، تفتك بالقلوب.
حرب السودان لم تُدمر البيوت فقط، بل تركت وراءها ألغاماً، وقنابل، وذخائر غير منفجرة، موضوعة كفخاخ متنقلة، لا يكاد يوم يمر دون أن تحصد هذه الرصاصات الصامتة أرواح المدنيين، لاسيما الأطفال، أو تدمّر أجسادهم الصغيرة، إلى الأبد. فقد غدت المنازل، والشوارع، والمدارس، وحتى ساحات اللعب، مناطق خطر، لا يهدأ فيها الخطر.
وفي مناطق النزاع، بكل من “المنطقتين” – النيل الازرق، وجبال النوبة -، ودارفور، وكردفان، والخرطوم، حيث كانت ضحكات الأطفال تملأ الأزقة، تحوّلت ساحات اللعب إلى ساحات موت، لم يعد التراب الذي كانوا يقفزون فوقه مجرد أرض، بل صار لغماً قابلاً للانفجار، في أية لحظة… في الحرب الحالية، لم يَعُد الدمار يقتصر على البيوت، والمستشفيات، بل إمتدّ ليزرع الموت في باطن الأرض، حيث تختبئ الذخائر غير المنفجرة، والألغام في كل زاوية، في انتظار من لا يعرفون ما تعنيه (المناطق الملغومة).
قنابل لا تُرى… تقتل بلا رحمة
في مايو الماضي (2025) لقي أربعة تلاميذ مصرعهم، وأصيب (9) آخرين، في إنفجار دانة (آر بي جي) بمدرسة الفضوة الإبتدائية بالغبشة، ريفي أروابة، وتعود تفاصيل الحادثة، أن أحد تلاميذ المدرسة (وهو من بين المصابين) عثر على دانة (آر بي جي) بالقرية، وحملها على كتفه إلى داخل المدرسة، فقام أحد زملائه بقذفها على الحائط، ممّا أدّى إلى انفجارها في الحال، وذلك، في وقت مبكر، قبل طابور الصباح… وكانت منطقة الفضوة شمال، غرب الغبشة، قد شهدت معارك عسكرية عنيفة، أبرزها معركة (الصياد الثانية) ضد قوات الدعم السريع، والتي خلّفت العديد من مخلفات الحرب، والشظايا، والدانات غير المنفجرة، في محيط القرية… وفي يونيو الماضي لقي شخصان مصرعهما، وأُصيب ثالث، جراء إنفجار قنبلة يدوية (قرنيت)، في حي التضامن، بمدينة القضارف، وأطلق أحد القتيلين القنبلة، بسبب شجار، مع شخص أخر، حول مقتنيات مفقودة، وتبادل الرجلان الإتهامات، قبل أن يتصاعد الخلاف، ويقع الإنفجار، وأسفر الحادث عن إصابة رجل ثالث، بجروح متفاوتة أثناء محاولته فض النزاع.
الموت يحصد المدنيين
في يناير الماضي (2024)، قُتل (10) مدنيين بولاية نهر النيل، جراء إنفجار لغم أرضي بحافلة كانت تقلّهم من منطقة شرق الجزيرة، إلي مدينة شندي، من جهته، كشف مدير المركز القومي لمكافحة الألغام، اللواء خالد حمدان عن تسجيل (51) حادث إنفجار ألغام، ومخلفات الحرب، أودت بحياة (23) شخصاً، على الأقل، ولفت خالد حمدان في حديثه مع (سودان تربيون) عن تلقي المركز لأكثر من (831) بلاغاً يتعلق بالألغام والذخائر غير المتفجرة خلال هذا العام، حيث جرى التعامل معها بإستثناء البلاغات الواردة من المناطق خارج سيطرة الحكومة، وأقر بوجود صعوبات تواجه عمليات الإزالة بسبب التلوث في المدن ووجود المباني التي تحد من سرعة العمل، كما أن تواجد المواطنين في الأماكن الملوّثة يزيد من إحتمالية وقوع حوادث.
الأرض التي قتلت أحلام الطفولة
ليست هذه قصص فردية، بل مآسي متكررة، فالألغام والذخيرة غير المتفجرة، أودت بحياة العشرات، وإصابة المئات بجروح دائمة غالباً ما تُفقد فيها أطراف، أو تُشوَّه فيها الوجوه، في كثير من الأحيان، لا تُنقل الضحايا، إلى مستشفيات مجهّزة، لأن معظمها إمّا دُمِّر، أو أُغلق بسبب الإشتباكات، ما يعني أن الجروح تظل مفتوحة – جسدياً ونفسياً – إلى أجل غير معلوم، وتكمن المأساة في أن هذه الألغام، لا تفرّق بين عسكري، ومدني، ولا بين مقاتل وطفل، بل تهدد كل من يمشي على الأرض.
لم تعد العودة إلى المنازل المدمّرة خياراً آمناً، ولم يعد المزارع قادراً على حرث أرضه، دون خوف. فالخطر بات صامتاً، مدفوناً، يفتك دون سابق إنذار… في ظل هذا الواقع القاتم، يصبح الحديث عن (إزالة الألغام) ضرورةً وطنيةً، وليس ترفًا إنسانيًا. فالحرب ربما تتوقف ذات يوم، لكن، الألغام ستبقى تحصد أرواح النساء والأطفال، حتى بعد أن يسكت السلاح، ما لم يتم التحرُّك اليوم، قبل أن تُزهق المزيد من الأحلام الصغيرة، والارواح البريئة، ولا يقتصر خطر القصف، والهجمات العسكرية، على الأثر المباشر، من قتلٍ وتدمير للبنية التحتية، والمنازل، هناك مخاطر أخرى كبيرة، هي إرث ثقيل يمتد لسنوات ويلاحق المدنيين.
رئيس برنامج الأمم المتحدة للاعمال المتعقلة بالالغام في السودان، صديق راشد، حذر من أن المناطق التي كانت آمنة، أصبحت – الآن – ملوثة بشكل عشوائي، بهذه الاسلحة القاتلة، بما فيها الخرطوم، والجزيرة وقال راشد: إنّه لأمر مقلق للغاية، أن الذخائر غير المتفجرة، ستكون موجودة في المنازل، وفي الساحات والميادين، لذا، فأن الخوف هو عندما يعود الناس، فأنهم سيبدأون بالفعل في تنظيف منازلهم، أعتقد أن الخرط كبير للغاية والخطر فيها مرتفع للغاية.
من جهته قال المهتم بإزالة الألغام، عمار الباقر، في حديثه مع (سودانس ريبورترس) أن المركز القومي لمكافحة الألغام، تم تأسيسه في العام 2002، بتمويل ودعم فني، من بعض الدول المانحة، وقد تم تسليم إدارة المركز لحكومة السودان، ومنذ تأسيس المركز، وحتي اندلاع الحرب قُدّرت مساحة الأرض الملوثة بالألغام الأرضية، في كل من السودان، وجنوب السودان (5065) منطقة، تم تطهير (4616) منطقة، وتبقت (404) منطقة، كما سجل المركز عدد (2670) منطقة، خطرة بالسودان، بمساحة بلغت أكثر من (95) ألف متر مربع، من الألغام، ومخلفات الحرب، بينما بلغت عدد المناطق المطهرة (2440)، أما المناطق الخطرة المتبقية تبلغ (230) منطقة، بمساحة إجمالية (32.108.15) متر مربع، بينما بلغ عدد الألغام التي تم تدميرها (10.088) لغم مضاد للأفراد، وعدد (3.158) لغم مضاد للدبابات، و(65.695) لغم كاذب، و(481.374) من الذخائر الصغيرة… وأوضح الباقر إن عدد الألغام التي تمّ إستخراجها بلغت (10,398) لغم مضاد للإفراد، و(3,349) لغم مضاد للدبابات، أضاف الباقر، عقب الحرب العبثية الحالية، تم إكتشاف ما يزيد عن (5000) مادة متفجرة، بكل من الخرطوم، وحجر العسل، بولاية نهر النيل، والجزيرة، وسنجة، إلي جانب تدمير (12) ألف لغم، و(53) ألف ذخيرة من الذخائر الصغيرة، من مخلفات الحرب، بحسب مدير المركز القومي لمكافحة الألغام.