ذوالنون سليمان، مركز تقدم للسياسات
تقدير موقف
تقديم: أعلن الدكتور كامل إدريس، رئيس الوزراء السوداني، خلال إحاطته أمام مجلس الأمن الدولي في 23 ديسمبر، عن مبادرة سودانية شاملة للسلام والمصالحة، داعيًا المجتمع الدولي إلى دعمها بوصفها إطارًا وطنيًا يستند إلى المبادئ الدولية، ويهدف إلى إنهاء الحرب المستمرة منذ أكثر من عامين.
تأتي هذه المبادرة في لحظة شديدة الحساسية، تتقاطع فيها ثلاث مسارات ضاغطة:
تدهور موازين القوى الميدانية بعد تقدم قوات الدعم السريع في أجزاء واسعة من دارفور وكردفان، وتهديدها المباشر لحاميات الجيش في الأبيض وكادوقلي.
1 انسداد أفق المسار التفاوضي المدعوم من الرباعية الدولية (السعودية، مصر، الإمارات، الولايات المتحدة) .
2 تصاعد الضغوط الدولية لفرض مسار مدني انتقالي يستبعد طرفي الحرب من السلطة.
في هذا السياق، لا يمكن قراءة مبادرة الحكومة السودانية في بورتسودان كخطوة سلام مستقلة فحسب، بل كتحرك سياسي يعكس أزمة داخل معسكر السلطة في بورتسودان، ومحاولة لإعادة التموضع في لحظة اختلال عسكري وسياسي متزايد
أولًا: مضمون المبادرة – الطموح السياسي وحدود الواقعية:
تتضمن المبادرة حزمة بنود واسعة النطاق، تشمل:
1 وقف إطلاق نار فوري وغير مشروط.
2 عودة النازحين واللاجئين.
3 انسحاب قوات الدعم السريع من المناطق التي تسيطر عليها، وتجميع مقاتليها ونزع سلاحهم.
4 برامج إعادة دمج وتأهيل للمقاتلين السابقين.
حوار سوداني–سوداني شامل يؤسس لتحول ديمقراطي وعدالة انتقالية غير انتقائية.
من حيث الصياغة، تلتقي المبادرة مع الأدبيات الدولية للحل الشامل، لكنها من حيث التوقيت وموازين القوى، تطرح التزامات تفوق القدرة الواقعية على فرضها، خصوصًا فيما يتعلق بانسحاب ونزع سلاح قوات الدعم السريع، في وقت تحقق فيه هذه القوات مكاسب ميدانية نوعية.
ثانيًا: المبادرة في سياق مسار الرباعية – توسيع الإطار أم الالتفاف عليه؟:
تُبدي الحكومة السودانية إشادة لفظية بمبادرة الرباعية، لكنها في المضمون تتجاوزها. فالرباعية تركز على:
وقف إطلاق نار إنساني.
إطلاق عملية سياسية تؤدي إلى حكومة انتقالية مدنية لا يشارك فيها طرفا الحرب.
في المقابل، تسعى مبادرة بورتسودان إلى:
نقل مركز الثقل من التهدئة الإنسانية إلى إعادة هيكلة قوات الدعم السريع.
إعادة تضمين المؤسسة العسكرية، بقيادة عبد الفتاح البرهان، بوصفها فاعلًا ضامنًا في المرحلة الانتقالية، لا طرفًا ينبغي إبعاده.
بهذا المعنى، تمثل المبادرة محاولة لتوسيع المنصات التفاوضية ورفع الكلفة السياسية على أي مسار لا يستجيب لشروط الحكومة، عبر إدخال مجلس الأمن كمرجعية موازية أو أعلى من الرباعية.
ثالثًا: الدلالات السياسية الداخلية – أزمة سلطة لا مبادرة سلام فقط:
تعكس المبادرة جملة دلالات داخلية بالغة الأهمية:
اختلال ميزان القوة العسكري دفع السلطة في بورتسودان إلى تعويض الخسائر الميدانية بتحرك سياسي دولي.
تحكم مراكز قوى غير مدنية في القرار الحكومي، بما في ذلك شبكات الإسلاميين والحركات المتحالفة مع الجيش، وهو ما يحدّ من قدرة الحكومة على تقديم تنازلات جوهرية.
محاولة إعادة إنتاج شرعية الدولة العسكرية تحت غطاء مبادرة سلام شاملة، بدل القبول بمسار انتقالي يقلّص نفوذها.
في هذا الإطار، يمكن النظر إلى المبادرة بوصفها انعكاسًا لأزمة داخل معسكر البرهان، لا تعبيرًا عن توافق وطني ناضج.
رابعًا: المواقف الدولية – إدارة التباينات لا المواجهة:
من المرجح أن تواجه المبادرة تحفظات داخل آلية الرباعية، لكنها لن تُواجَه بالرفض العلني. إذ تميل الأطراف الدولية إلى:
تفكيك المبادرة زمنيًا عبر التركيز أولًا على وقف إطلاق النار، وتأجيل البنود الخلافية.
إدارة الخلاف مع بورتسودان عبر قنوات دبلوماسية غير معلنة.
في هذا السياق، قد يظهر تباين داخل الرباعية، ولا سيما في الموقف المصري الذي قد يرى في المبادرة فرصة لتعزيز مفهوم الدولة المركزية، أو رقة تفاوضية لتحسين شروط التسوية. هذا التباين يمنح الحكومة السودانية هامش مناورة إضافيًا، لكنه لا يضمن قبول رؤيتها كاملة.
خامسًا: الأمم المتحدة والمسار الأفريقي – تنسيق لا استبدال:
تُظهر مواقف الأمم المتحدة، كما عبّر عنها مساعد الأمين العام خالد خياري، ميلًا واضحًا إلى تنسيق المسارات (الرباعية، الاتحاد الأفريقي، الأمم المتحدة)، لا استبدال أحدها. ويُقرأ ذلك كرسالة ضمنية لبورتسودان بأن:
تدويل الملف لا يعني تلقائيًا إعادة تعريف شروط الحل.
أي مسار سياسي مستدام يظل مشروطًا بتوافق إقليمي ودعم أفريقي.
خلاصة تقدير الموقف:
تعكس مبادرة الحكومة السودانية بقيادة البرهان، كما طُرحت في إحاطة رئيس الوزراء أمام مجلس الأمن الدولي، محاولة واضحة لإعادة تموضع المسار التفاوضي عبر نقل مركز ثقله من آلية الرباعية إلى الإطار الأممي، بما يوسّع المرجعية السياسية ويزيد الكلفة الدبلوماسية لأي مسار لا ينسجم مع شروط السلطة القائمة في بورتسودان.
في هذا السياق، لا تُقرأ المبادرة بوصفها بديلاً كاملاً للمسارات القائمة، بل كأداة لإعادة ضبط التوازن التفاوضي في لحظة اختلال ميداني وسياسي متزايد.
تُظهر بنية المبادرة ومضامينها سعيًا لإعادة تضمين المؤسسة العسكرية السودانية، بقيادة عبد الفتاح البرهان، بوصفها فاعلًا ضامنًا في أي ترتيبات انتقالية مقبلة، لا طرفًا ينبغي تحييده أو استبعاده بالكامل. ويتقاطع هذا التوجّه مع ضغوط داخلية صادرة عن شبكات عسكرية وإسلامية متحالفة مع الجيش، ما يعكس أزمة بنيوية في طبيعة القرار الحكومي وحدود استقلاله عن مراكز القوة غير المدنية.
في المقابل، تميل الأمم المتحدة إلى مقاربة مختلفة تقوم على تنسيق المسارات لا استبدالها، عبر الجمع بين مسار الرباعية، والمسار الأفريقي بقيادة الاتحاد الأفريقي، والمسار الأممي، بدل تبنّي مبادرة واحدة كإطار حصري للحل. ويشكّل هذا التوجه أحد رهانات بورتسودان، التي تسعى من خلال مبادرتها إلى تحسين موقعها التفاوضي داخل شبكة مسارات متداخلة، بدل الرهان على مسار واحد يفرض عليها تنازلات سياسية صعبة.
في المحصلة، لا تعكس المبادرة اختراقًا حاسمًا في مسار السلام بقدر ما تعبّر عن محاولة لإعادة تعريف شروط التفاوض وحدود المرحلة الانتقالية، في ظل تقدم ميداني لقوات الدعم السريع، وتزايد الضغوط الدولية لاستبعاد طرفي الحرب من السلطة.
تبقى المبادرة أداة سياسية تفاوضية مفتوحة الاحتمالات، يتوقف تأثيرها الفعلي على تطورات الميدان، وتماسك الموقف الدولي، وقدرة الفاعلين السودانيين على الانتقال من إدارة الصراع إلى إدارة تسوية معقّدة لم تنضج شروطها بعد.

