الأحزاب السودانية (بهكذا حال) صارت غير مواكبة. خروج الحركات المسلحة من المشهد السياسي بإنتهاء دور البندقية. ترامب إذا نجح سيكون الأكثر نفوذا في تاريخ السودان (٢ / ٤).
بقلم الصادق علي حسن.
وأقعية ترامب :
الواقعية أو البرغماتية في الاصطلاح العام ، قد تعني تحقيق الأهداف دون الركون للمثالية أو النظريات ، والبرغماتي هو الذي يخدم تحقيق أهدافه بالوسائل الممكنة والمتاحة له، بأقلها كلفة . الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من أكثر رؤساء الولايات المتحدة الذين مروا على تاريخ بلادهم وأقعية ، يعلن عن أهدافه بصورة وأضحة في برنامجه الإنتخابي ويسعى إلى تحقيقها بلا مواربة أو تجمل. برنامجه الإنتخابي كان وأضحا، يقوم على مصلحة المواطن الأمريكي وبلاده أولا . ولا يكثرث لقيم الآباء المؤسسين التي نشأت عليها بلاده في محيطها الخارجي ، فالديمقراطية للولايات المتحدة . واحترام حقوق الإنسان للمواطن الأمريكي ، وفي ذلك قد تستشف في نهجه التمييز ، وفي عقليته سلوك الإنسان الأبيض الذي يعتد بزعم تميزه وتفوقه على الغير . في حملته الإنتخابية الأولى في الدورة التي فاز فيها على هيلاري كلينتون كان حديثه عن الجدار العازل مع المكسيك ، ولا يتردد ترامب في وصف بعض شعوب القارة الإفريقية وأمريكا اللاتينية بعبارات حاطة بالكرامة الإنسانية ضمن حيثياث أسبابه لوضع القيود المشددة ومنع الهجرة إلى الولايات المتحدة . أوقف المساعدات الإنسانية عبر المعونة الأمريكية لدول وشعوب العالم ، وفي حيثياته خطابه أمام الكونغرس الأمريكي ذكر بان الولايات المتحدة تقدم مساعدات لدول ليست للولايات المتحدة بها مصالح مثل ليسوتو، وأستنكر تقديم مساعدة لليسوتو بمبلغ(٨ مليون دولار لليسوتو) وقال عنها (دولة لم يسمع بها أحد) . يحتفى ترامب بحماية بلاده لأنظمة دول الخليج ،التي عليها أن تدفع مقابل ما تجدها من حماية أمريكية . استهل ترامب جولاته الخارجية بالسعودية والإمارات وقطر ، وعاد منها إلى بلاده محملا بالصفقات والغنائم ، التقى بالرئيس الجنوب إفريقى سيريل رامافوزا بالبيت الأبيض، وعرض عليه صور وفيديوهات عن انتهاكات قال بانها قامت بها عناصر من السود ضد المزارعين البيض بجنوب إفريقيا ، رد رامافوزا انها غير صحيحة، طلب توقيع صفقات استثمارية كما نشرت مواقع جنوب إفريقية ، وكان رد رامافوزا بأن موارد بلاده لإنسان جنوب إفريقيا، وليس للتصرف فيها كما يرغب ترامب بمثل ما يحدث في الخليج ، ذهل ترامب من ردود رامافوزا، لأنه لم يتعود على كلمة (لا) ، وتحول اللقاء الودي بينهما إلى أجواء مشحونة بالتوتر والغضب الترامبي . ونقلت الوسائط عن ترامب انه قال عن رامافوزا (ساحر إفريقي مارس عليه السحر الإفريقي ).
لقد انجز الوسيط الأمريكي اتفاق الكنغو الديمقراطية ورواندا (اتفاق وأشنطن) ، ولم يكن الوسيط الأمريكي مهتما بالخسائر الإنسانية التي وقعت من الطرفين على المدنيين ،أوقضايا الديمقراطية . إهتمام الوسيط الأمريكي أنصب على وقف الصراعات والاقتتال وقيام إطار إقتصادي استثماري واستقرار سياسي يُمكن الشركات الأمريكية المستثمرة في المعادن الثمينة من الإستثمار في سوق الإستثمار الجديد . تتميز الكنغو الديمقراطية بالمعادن الثمينة وموردا رئيسيا للكوبالت ، النحاس ، الماس ، الذهب ،الكولتان، الليثيوم ومنها المعادن الأساسية في صناعة التكنولوجيا . ترامب ليس مشغولا بمنابر حقوق الإنسان، ومجلس حقوقها بجنيف ، ولا بفعاليات الأمم المتحدة بنيويورك، ولا ببرامج الحقيقة والمصالحات وجبر الضرر وتقارير المنظمات . ترامب مهتما بالخليج وموارده. وما يجده بالخليج من حفاوة وطلاوة وحلاوة . مهتما بمعادن وثروات إفريقيا ومهتما بتحسين العلاقات مع الرئيس الروسي بوتن لتأطير وضع الولايات المتحدة كقطب أوحد تدور في فلكه كل مصالح دول العالم وشعوبها.
السودان يمتاز بالموقع الجيوسياسي ، وساحة لتقاطعات مصالح مع دول الجوار والمحيط الإقليمي والخليجي والدولي . نجح ترامب في نزع فتيل استفحال الحرب الإسرائيلية الإيرانية وتحولها إلى حرب كونية مدمرة بعد أن فشلت تهديداته لإيران ،وقد أظهرت إيران قدرات مذهلة فاجأت العالم . لقد حقق ترامب نقاطا لصالح دوره الدولي بوقف الحرب التي اندلعت بين إسرائيل وإيران. نجح في اتفاق الكنغو الديمقراطية ورواندا، ويسعى ترامب لتسجيل نقاط لدوره الخارجي في الحرب الروسية الأوكرانية ، وإذ نجاح ترامب في إنهاء أزمة الحرب الدائرة في السودان ،يمكن أن يضيف ذلك النجاح له مكاسب سياسية تاريخية معتبرة، خاصة إذا أنتوى الترشح لولاية ثانية، وقد صار الرئيس الأمريكي الذي عاد للمرة الثانية لرئاسة الولايات المتحدة بعد فترة إنقطاع ، وليس لدورة ثانية ليكون قد حكم الولايات المتحدة لثلاث دورات رئاسية (١٢عاما). دورة رئاسة واحدة ، فدورتان رئاسيتان كاملتان. في موجز التاريخ الأمريكي الرئيس الأمريكي الوحيد الذي شغل المنصب الرئاسي لأكثر من دورتين هو فرانكلين روزفلت الذي انتخب لأربع دورات من ١٩٣٣- ١٩٤٥م ، ويعتبر جورج واشنطن أول رئيس أمريكي خدم لدورتين متتالتين وأرسى تقليد عدم السعي لولاية ثالثة، لذلك فوز ترامب بولاية ثالثة محتملة ، تعني له الكثير شخصيا، وفي التاريخ الأمريكي .أيا كانت تقديرات ترامب من التوسط لحل الأزمة السودانية، فإن مصالح الشركات الأمريكية ستكون في الاعتبار ،وبعد دخول ملف الأزمة السودانية إلى البيت الأبيض ، سيكون من الصعب خروجه من دون علم ترامب أو الأقل موافقته . كذلك لن يحتمل ترامب عدم تحقيق النجاح، ونجاح ترامب تقوم على تسوية بين طرفي الحرب الدائرة ، وقد ذهب البرهان بنفسه إلى جنيف والتقى بمستشاره للشؤون الإفريقية مسعد بولس ،ولم تكشف الولايات المتحدة عن ما تم في اللقاء ، كما لم يكشف ذلك البرهان والطرفان أحاطا مخرجات اللقاء بسياج من السرية التامة . هنالك أقوال عن لقاءات مع الدعم السريع لا يُعرف عنها حتى الآن شيئا . وطالما استجاب البرهان لوساطة الولايات المتحدة ،فعليه قبل ذلك أن يضع في حسبانه ضرورة انتهاز السانحة والرجوع إلى شعب السودان ، قبل التقرير بشأن أي اتفاق ، ومن الافضل أن يتنازل لصالح الشعب السوداني، وأن لا يكرر أخطاء سلفه البشير وقد أتته الفرصة في آخريات عهده .
فرصة البرهان :
حكم البشير سلف البرهان السودان لثلاثة عقود ، ولم يتبق له شيئا في رأسه إلا وفعله . التقى البشير بالرؤساء والملوك والحكام وصناع القرار الدولي والإقليمي ووثقت وسائل الإعلام للقاءاته ومقابلاته. وفي السودان صارت شؤونه الخاصة محل إهتمام الرأي العام وتعبيد طريق مسفلت لمنزل أسرة زوجته وداد بابكر بالحي الشعبي. البشير نفسه من أسرة متواضعة. كان والده عاملا . في عهده تمت انتهاكات دارفور كما وتم فصل جنوب السودان، وأنتهى تأثير شعار الإسلام السياسي في الشارع السوداني، وكان يمكنه في آواخر عهده أن يتصالح مع الشعب الذي يحكمه ، اعلن عن رغبته في التخلي عن السلطة ،وكان يمكن أن يفعل ذلك، ويعلن للشعب السوداني الذي يحكمه أنه اجتهد، والتقدير متروكا له ، وسيتنحى ليترك الأمر للشعب، وليس للمؤتمر الوطني ليقرر الشعب بشأن أمره ، خاصة وقد زعم انه تحول إلى رئيس قومي ،وخلفه في رئاسة الحزب المذكور أحمد هرون . ولكن البشير لم يلتزم بمزاعمه . فهو من تربية حركة مسكونة بشهوة حب السلطة. تم إعداد مسرح لمسرحية سيئة الإخراج بمنطقة شطاية بالقرب من مدينة كأس غربي مدينة نيالا، وحشدت الحشود غير المسبوقة، ووصل بطل المسرحية البشير ،ورقص وسط الحشود المتقاطرة رقصاته المشهورة ، وهو يعرض بعصاته، ويردد (المحكمة الجنائية تحت جزمتي) وكان المرحوم عمر قندولي من الذين لعبوا الدور الأبرز في احتفالات شطاية. وخرجت البيانات الحزبية من التنظيمات السياسية الموالية، بتأييد ترشيحه وإنتخابه لمدى الحياة . أين البشير الآن ، وبماذا افادته الصور واللقاءات الخارجية ،والخطب في الحشود الداخلية ، كما يفعل البرهان الآن، وهو يتنقل ، ويلتقي، ويخطب والجماهير تهتف ،وتنهمر الدموع وفي محيط خطبه الدماء تسيل بغزارة.
الفرصة للبرهان أن يتصالح مع شعبه قبل فوات الأوان، حتى لا يشهد بعينيه، ما شهده البشير من نهاية محزنة ، وحمايته حميدتي، كان من أسباب زوال حكمه . ليقول في نفسه بحسرة (يا ليتني اتعظت من تجربة البشير).