الإنسانية الغائبة:السودان نموذجًا لتسييس المعاناة في الساحة الدولية(3-3)
تقرير:حسين سعد
في خضم هذا الإنهيار الشامل، بات من الضروري تجاوز الأساليب التقليدية في التعامل مع الأزمات الإنسانية، لم تعد البيانات الصحفية الدورية ولا جلسات مجلس الأمن الصامتة كافية لإحداث تحوّل جذري في مسار الأزمة السودانية، فالمطلوب الآن هو تحريك ضمير العالم، وتحويل السودان من (أزمة هامشية) إلى (قضية مركزية) في السياسات الإنسانية الدولية، تُعامل بذات الجدية والاهتمام الذي تُمنح به أزمات أخرى أقل اتساعًا أو دمارًا، إن القراءة المتأنية لطبيعة الصراع في السودان تكشف أنه ليس مجرد نزاع مسلح بين فصيلين عسكريين، بل هو حرب تمزق دولة بكاملها، وتؤسس لعقود قادمة من اللاإستقرار، ما لم يتم التدخل الجاد والعاجل، وقد تكون هذه الأزمة، رغم قسوتها، فرصة للمجتمع الدولي لإعادة النظر في مفهوم (الاستجابة الإنسانية العادلة)، تلك التي لا تخضع لمعايير المصالح، ولا تنتظر ضغط وسائل الإعلام الغربية، بل تنبع من التزام أخلاقي وسياسي حقيقي تجاه كل الشعوب، على قدم المساواة، وهنا يبرز دور الأمم المتحدة والمنظمات الإغاثية الكبرى مثل (أطباء بلا حدود)، و(الصليب الأحمر)، و(برنامج الغذاء العالمي)، التي طالما كانت خط الدفاع الأول في مواجهة الكوارث، غير أن هذه الهيئات، على أهميتها، لا تستطيع وحدها ملء الفراغ السياسي والتمويلي، ما لم يتم دعمها بموقف سياسي واضح من القوى الدولية، يضمن فتح ممرات آمنة، وتوفير التمويل الكافي، وضمان حماية المدنيين والعاملين في المجال الإنساني، كما ينبغي أن تلعب وسائل الإعلام—لا سيما العربية والدولية المستقلة—دورًا مفصليًا في (كسر التعتيم)، وتكثيف تغطية المعاناة السودانية بلغة إنسانية مؤثرة، بعيدًا عن الجفاف الإخباري أو التحليلات النخبوية، لقد أثبتت أزمات سابقة، من سوريا إلى أوكرانيا، إلي غزة أن الصورة والكلمة، إذا ما استخدمتا بذكاء ومهنية، قادرتان على تغيير المزاج الدولي، وخلق رأي عام ضاغط، يدفع الحكومات للتحرك، إضافة إلى ذلك، فإن الجاليات السودانية في الخارج، ونشطاء المجتمع المدني، والشخصيات العامة ذات التأثير في الرأي العام العالمي، مطالبون اليوم أكثر من أي وقت مضى بتكثيف جهود المناصرة، وتدويل المأساة عبر الفعاليات، والندوات، وحملات الضغط، وتوظيف منصات التواصل الاجتماعي للوصول إلى قلوب الشعوب قبل عقول صانعي القرار
السودان ينادي… هل يسمع العالم النداء؟
إن مستقبل السودان ليس فقط مسؤولية أهله، بل إمتحان حقيقي لضمير الإنسانية وقدرتها على الاستجابة دون ازدواجية أو انتقائية. هذا التقرير يواصل تسليط الضوء على مكامن الخلل في الإستجابة الحالية، ويطرح رؤية شاملة تتضمن إستراتيجيات لتفعيل التضامن الدولي، والدفع نحو تحرك سياسي وإنساني حاسم، قبل أن يتحول النزف السوداني إلى كارثة يصعب تداركها، إنطلاقًا من عمق الأزمة وتعقيداتها، ومن ضعف الإستجابة الدولية حتى الآن، فإن هناك حاجة ماسة إلى تحرك متعدد المستويات، يجمع بين البعد السياسي، والإنساني، والإعلامي، والمجتمعي، وفي هذا السياق، يمكن تقديم عدد من التوصيات والمقترحات التي تُسهم في إعادة السودان إلى صدارة الإهتمام الدولي:
أولًا: على مستوى الحكومات والمنظمات الدولية تفعيل أدوات الضغط السياسي والدبلوماسي: يجب على المجتمع الدولي، وعلى رأسه مجلس الأمن والاتحاد الإفريقي، ممارسة ضغوط حقيقية لوقف إطلاق النار الدائم، وفرض عقوبات على الجهات التي تعيق دخول المساعدات الإنسانية أو تستهدف المدنيين.
ثانياً: علي الدول المانحة زيادة التمويل الإنساني بشكل عاجل يتناسب مع حجم الكارثة، وتمويل خطط الاستجابة الإنسانية للأمم المتحدة دون تأخير، مع تخصيص موارد إضافية للمناطق الأكثر تضررًا والمهمشة.
ثالثاً:إنشاء آلية دولية للمراقبة وتوثيق الإنتهاكات والجرائم المرتكبة بحق المدنيين، وضمان محاسبة المسؤولين عنها، سواء من خلال المحكمة الجنائية الدولية أو آليات عدالة انتقالية سودانية بإشراف دولي.
رابعاً: على مستوى منظمات الإغاثة والمجتمع المدني تعزيز التنسيق بين المنظمات الإنسانية: لتجنب تكرار الجهود وضمان إيصال المساعدات بشكل فعّال وعادل، خاصة في المناطق الخارجة عن سيطرة الدولة أو الخاضعة للصراع المباشر
خامساً: دعم منظمات المجتمع المدني السوداني: وتوفير التمويل والتدريب والتسهيلات اللوجستية لها، نظرًا لقربها من المجتمعات المحلية وقدرتها على العمل في بيئات صعبة، وإشراك المجتمعات المحلية في صنع القرار الإنساني لضمان إستجابة أكثر واقعية وملاءمة للاحتياجات الفعلية للمتضررين
سادساً: على مستوى الإعلام والرأي العام العالمي تكثيف التغطية الإعلامية المهنية للأزمة السودانية، من خلال تحقيقات ميدانية، وسرد قصص الناجين، وتحليل الأبعاد الإنسانية والسياسية للنزاع، بما يكسر دائرة الصمت ويولد تعاطفًا واسعًا، وإطلاق حملات توعية ومناصرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي: تستهدف الرأي العام العالمي، من خلال الوسوم، الفيديوهات المؤثرة، والتعاون مع المؤثرين في العالم العربي والدولي، وتنظيم أيام عالمية للتضامن مع السودان، بإشراف من منظمات دولية، تُسهم في إبراز حجم الأزمة وحشد الدعم المادي والسياسي والمعنوي لها
سابعاً: ومع غياب أفق واضح للحل، يدعو المراقبون إلى ضرورة تفعيل دور الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي والجامعة العربية في تسريع الجهود السياسية، وتوفير حماية حقيقية للمدنيين، ورفع مستوى التنسيق بين الدول المانحة لتغطية فجوة التمويل التي تعيق عمل المنظمات الإنسانية على الأرض
ثامناً: يجب أن يواصل السودانيون داخل البلاد، وفي الشتات رفع أصواتهم، مطالبين العالم بعدم تجاهل مأساتهم، وتقديم الدعم اللازم لهم في مواجهة آلة الحرب والانتهاكات، فالأمل لا يزال قائمًا في أن تستفيق الضمائر الدولية، وتُمنح السودان فرصة جديدة للسلام، عبر تحرك عاجل، عادل، وشامل يضع حياة الإنسان في مقدمة الأولويات ، لان الأزمة السودانية لم تعد تحتمل المزيد من التأجيل أو التجاهل، فالواقع الإنساني ينذر بكارثة غير مسبوقة، والإستجابة الدولية، رغم أهميتها، لا تزال دون المستوى المطلوب، وبينما ينزف السودان، تظل الحاجة قائمة وملحّة إلى تدخلات فورية تنقذ ما يمكن إنقاذه، وتمنح هذا البلد المنكوب بارقة أمل في مستقبل أكثر إنسانية واستقرارًا
الخاتمة :
لقد آن الأوان أن يتوقف العالم عن التفرّج على السودان وهو ينزف من خاصرته، ويتهاوى بأطفاله ونسائه وشيوخه تحت وطأة الحرب والجوع والنزوح والمرض، إن ما يجري في هذا البلد، الذي كان يومًا سلة غذاء إفريقيا، وموطنًا لحضارات عريقة، ليس مجرد مأساة محلية أو أزمة عابرة، بل هو نموذج صارخ للفشل الإنساني حين يُقاس التضامن الدولي بمعايير الربح والخسارة، فالصمت الدولي، الذي يطوق الأزمة السودانية، لم يعد مبررًا ولا مقبولًا، فالأرقام المرعبة، والصور الخارجة من قلب المأساة، ونداءات المنظمات الأممية، كلها تشكل صرخة واحدة مدوية (أنقذوا السودان) وإذا لم يتحرك العالم اليوم—وبسرعة—فإن كارثة إنسانية أكبر ستتفاقم، وستمتد آثارها لعقود، ليس فقط داخل السودان، بل في كامل الإقليم، وستكون وصمة عار في جبين الإنسانية، فالمطلوب اليوم ليس فقط إغاثة عاجلة، بل رؤية استراتيجية طويلة الأمد، تنطلق من إحترام كرامة الإنسان السوداني، وحقه في الأمن، والخبز، والتعليم، والمستقبل. وهذه الرؤية لا يمكن أن تتحقق إلا بإرادة سياسية دولية صادقة، وشراكة حقيقية مع الشعب السوداني، ومناصرة عالمية عادلة لا تميّز بين دماء البشر على أساس لونهم أو جغرافيتهم؟ وسط هذا الجحيم، يُصرّ البعض على الحياة يبنون من الرماد طمأنينة مؤقتة، ويصنعون من الألم مساحة صغيرة للفرح، لعلّها تمتد، في وجه الجوع، يقتسم الناس ما تبقّى من خبز الوطن، وفي وجه الحرب، يرفعون دعاءهم لا كاستسلام، بل كفعل مقاومة، صمت العالم موجِع، نعم، لكن السودان لم يسقط بعد، ما دام هناك من يُنقذ طفلاً من بين الركام، من يرسم على جدار مدمر، من يغنّي في معسكر النزوح واللجوء ليرفع المعنويات… فثمة وطنٌ لا يزال حيًا، وإن كان جريحًا.(يتبع)