د التوم حاج الصافي زين العابدين .خبير علاقات دولية .نيويورك
عبد الفتاح البرهان ليس حادثة عابرة في تاريخ السودان، بل حلقة مدروسة في سلسلة الخراب. هو الوجه الأمثل الذي كانت تبحث عنه الحركة الإسلامية بعد سقوط البشير: عسكري بلا كاريزما سياسية، طموح للسلطة، قابل لأن يكون واجهة، وقادر على تنفيذ ما يُطلب منه دون أن يبدو منتمياً تاريخياً للتنظيم.
بحسب روايات متداولة على نطاق واسع داخل الأوساط الأمنية والسياسية، جرى منذ الأيام الأولى للثورة تلميع اسم البرهان بشكل خفي وسط الثوار، عبر قنوات ظلّية وأذرع أمنية، في وقت كانت فيه البلاد تعيش فراغاً سيادياً خاطفاً بعد سقوط رأس النظام. كان ذلك تمهيداً لسيناريو انتقال قصير، يُمسك فيه البرهان بالسلطة لعام واحد، على أن يعود بعدها رجال النظام القديم بوجوه جديدة. هذه لم تكن تحليلات رومانسية، بل ترتيبات فشلت لاحقاً بفعل صراعات مراكز القوة.
عندما تعثّر المخطط الأول، تحوّل البرهان من أداة مرحلية إلى مشروع حكم كامل. هنا التقت طموحاته الشخصية مع حاجة التنظيم القديم إلى واجهة “غير ملوّثة تاريخياً” تعيد فتح الطريق. لم يكن الرجل من الصف الأول للحركة الإسلامية، لكنه كان الأنسب لتنفيذ أجندتها. هكذا صار الواجهة التي تُمرَّر عبرها سياسات الإقصاء، وإعادة التمكين، وتصفية الحلم المدني.
البرهان يعرف جيداً دهاليز السلطة منذ تقلّده مناصب محلية في عهد المؤتمر الوطني، من بينها مواقع في دارفور، وهي محطات كان النظام يستخدمها لاستقطاب اللاهثين خلف النفوذ. لم يقطع الرجل يوماً مع أولياء نعمته الحقيقيين، بل عاد إليهم بالطريقة الوحيدة التي يجيدها الحكم العسكري: سفك الدم، وحرق الأرض، وفتح أبواب الحرب، حتى أوصل البلاد إلى هذا الخراب الشامل.
ولم يواصل التنظيم تلميع هذا الرجل الفاشل قناعةً به أو بقدراته، بل بدافع أنانية مفرطة، رغم يقينهم الكامل ببؤسه السياسي وقلة حيلته. لكنه كان الثمن الأرخص لإعادتهم إلى السلطة. ثمرة خالصة للكيزان، لم يحصد منها الشعب السوداني سوى الدم، والانهيار، وضياع المستقبل. والأدهى أن من يتولون تسويقه اليوم هم أنفسهم الذين تمرّغوا في الفساد ونهب المال العام، ثم عادوا بوقاحة يبيعون خطاب الوطنية والسيادة.
فالبرهان نفسه ليس بعيداً عن هذا العالم. إذ يملك أخوين يديران شركات في دبي، في البرج التجاري، يعملان في مجال الذهب حتى اليوم. ذهب الشعب السوداني الذي نُهب بينما كانت البلاد تحترق. ومع اشتداد الأزمة، وُفرت له ضمانات خارجية، وبدأ ترتيب نقل الأخوين إلى مناطق أخرى بعد إتمام ما يكفي من النهب، في مشهد فاضح يلخص طبيعة هذه السلطة: تأمين العائلة أولاً، وترك الوطن للدمار.
حتى تصريحات البرهان القليلة لم تكن نابعة من رؤية أو شجاعة سياسية، بل جاءت بإيعاز من وسطاء جدد ينشطون في حرق المراحل، وصناعة صورة مصطنعة له، ومحاولة نفخ “كاريزما شرق أوسطية” لرجل يفتقد لأي حضور حقيقي. كاريزما تُصنع في الغرف المغلقة، لا في الشارع ولا في ضمير الناس.
لم يكن ما جرى دفاعاً عن دولة، بل مقامرة بوطن كامل من أجل إعادة الفاسدين والمجرمين إلى المشهد. وفي قلب هذا الخراب يقف عرّابو النظام القديم، فيما يظل البرهان الواجهة التنفيذية، مثل غيره من الواجهات الإعلامية والسياسية التي تُستخدم لتمرير أجندة الإجرام السياسي بأصوات ناعمة أو بزات عسكرية.
البرهان لا يختلف جوهرياً عن سلفه البشير. كلاهما من طينة واحدة: طينة البؤس، والأسى، والقبح السياسي. لم يذق السودانيون معهما طعم العافية، ولم يروا دولة، بل سلطة عارية لا تتردد في التضحية بالشعب من أجل الكرسي.
التاريخ لن يسجل البرهان كمنقذ، بل كواجهة مثالية لمرحلة مظلمة، أُعيد فيها إنتاج النظام القديم بدماء جديدة، وضاع فيها وطن كان يستحق فرصة للحياة.

