الجاك محمود أحمد الجاك يكتب: قراءة واقعية لتحالف السودان التأسيسي
أحدث التوقيع على ميثاق التحالف التأسيسي والدستور الإنتقالي لجمهورية السودان لسنة ٢٠٢٥ في العاصمة الكينية نيروبي نهاية الأسبوع الماضي زلزال سياسي غير مسبوق في البلاد. وما زالت تتوالى ردود الأفعال بصورة عنيفة يوما بعد يوم، خاصة من قوى المركز ونخب النادي السياسي القديم حتى ممن كنا نحسبهم في غفلة من الزمان أصدقاء وحلفاء محتملين وشركاء في مشروع التغيير لنفاجأ بأنهم الحرس الأيديولوجي للسودان القديم. تلك النخب التي ما زالت ترى أن من حقها وحدها إحتكار أدوات الفعل السياسي والتحكم بشكل مطلق في إدارة المشهد السياسي وتحديد قوانين اللعب السياسي وفرضها على الآخرين ليبصموا عليها. توزع صكوك الوطنية لأبواقها ممن شايعها مطأطأة راسها صاغرة ذليلة أمامها راضية بلعب دور عبيد المنازل في مشهد غاية في السخرية والوضاعة، فيما تمارس ذات النخب الإبتزاز السياسي الرخيص من خلال شيطنة وتخوين كل من يخالف ثوابتها وتوجهاتها ويدوس على تابوهاتها السياسية. وقد عز على هذه النخب الفاشلة التواضع والتحلي بالشجاعة للإعتراف بأن مشروع السودان الجديد بات يمثل في الواقع برنامج الخلاص الوطني الوحيد لكل السودان في ظل غياب مشروع وطني حقيقي منذ ما يسمى بإستقلال السودان والسبب في ذلك كما قال رجل المهام الصعبة ورئيس الحركة الشعبية القائد عبدالعزيز آدم الحلو يرجع لفشل الآباء المؤسسين والنخب التي تعاقبت على حكم السودان في إنجاز مهام البناء الوطني وبناء دولة موحدة قابلة للحياة، وفشل السودان القديم في إدارة التنوع والإجابة على سؤال كيف يحكم السودان، هذا السؤال الذي طالما ظل عالقا مع غيره من الأسئلة الدستورية والتأسيسية منذ ما يسمى بإستقلال السودان، ذلك الفجر الكاذب.
الحقيقة لم ترث شعوب الهامش منذ العام ١٩٥٦ من السودان القديم سوى تاريخ طويل من الظلم والإضطهاد والعنصرية والتهميش، والحروب التي خلفت أنهر من من الدماء والدموع. فيما ظلت نخب الشمال والوسط النيلي منذ العام ١٩٨٩ تتآمر على أى ثورة وطنية يقودها أبناء الهامش. تآمروا على الثورة المهدية في عهد الخليفة عبدالله التعايشي، ولأسباب عنصرية خانوا ووشوا بالبطل علي عبداللطيف وعبدالفضيل الماظ ورفاقهما في جمعية اللواء الأبيض ١٩٢٤ تلك المؤامرة التي إنتهت إلى إحتلال السودان بواسطة المستعمر الإنجليزي. قررت قوى الهامش هذه المرة وضع نهاية لسياسات وتوجهات وممارسات السودان القديم التي لم تنتج غير الحروب وما زالت تهدد وحدة ما تبقى من السودان. وبالرغم من الإنتقادات الموجهة لتحالف السودان التأسيسي، إلا أنه عكس عبقرية سياسية منقطعة النظير أعطت قوى الهامش وقوى السودان الجديد لأول مرة منصة إنطلاق وأمل كبير في الخروج من الدائرة الشريرة، دائرة الإرهاب الديني والإبتزاز الأيديولوجي ومشروعية العنف. لقد نجحت نيروبي في إعادة رسم المشهد السياسي المعقد في السودان بعد قراءة متأنية وتحليل عميق في ظل إنسداد الأفق السياسي. وأكد ميلاد تحالف السودان التأسيسي وجود إنقسام وطني عميق ودحض فرضية وأكذوبة إصطفاف كل السودانيين خلف القوات المسلحة فبما يسمى بمعركة الكرامة، وبدل قواعد اللعب السياسي وعمل على خلق توازن قوة جديد على الأرض.
السياسي الحصيف هو من يقرأ حركة التاريخ جيدا ويتعلم من تجارب الشعوب ليعتبر منها. فكثير من الدول والشعوب والأمم، وفي سياق تحولاتها التاريخية وثوراتها الوطنية ضد الأنظمة الإستبدادية والعنصرية والثيوقراطية نجحت بفضل العقلانية والواقعية في تجاوز مرارات الحروب والعنصرية وتحررت من جحيم الطغيان والإضطهاد والإستبداد، وتعلمت من تجاربها المريرة فإستخلصت منها عبر ودروس مكنتها من النهوض والإنطلاق إلى مصاف الدول المتقدمة. وعلى صعيد القارة الأفريقية نجد تجربة جنوب إفريقيا التي عاشت عقود طويلة من نظام الفصل العنصري Aprthied لكن عندما تيقن البيض أنه لا مستقبل لنظام الفصل العنصري الذي بلغ مرحلة إنسداد الأفق بعد أن صار مرفوضا إقليميا وعالميا، خاصة بعد رفع بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية الغطاء عن نظام الأبرتايد نتيجة لتنامي الضغط الجماهيري، الأمر الذي دفع آخر رئيس من البيض السيد وليام فريدريك ديكلارك إلى إقناع البيض بضرورة التفاوض للوصول إلى تسوية تضمن للبيض مستقبل آمن في جنوب إفريقيا جديدة. رأى ديكلارك وقتها في الزعيم نيلسون مانديلا أنسب شخص يمكن التفاوض معه للوصول إلى تسوية بين السود والبيض، فقام بإخراج مانديلا من معتقله في جزيرة روبن. مانديلا لم تمنعه المظالم وجرائم نظام الفصل العنصري أو مرارات بقاؤه معتقلا في زنزانته المنفردة ل ٢٧ عاما من التصدي لمسئؤليته التاريخية والأخلاقية كزعيم لإنجاز تسوية تاريخية تنهي مأساة شعبه الذي إكتوى بجرائم الفصل العنصري. بل خاض حوار شاق ومضني لإقناع رفاق نضاله في الكتل الثورية الثلاث التي كانت تناضل تحت مظلة المؤتمر الوطني الجنوب أفريقي وهى الحزب الشيوعي الجنوب أفريقي (SACP) – مؤتمر حركة عموم أفريقيا (PAC) – وكتلة إتحاد العمال (COSATU) بضرورة التخلي عن خيار الإنتقام والتفاوض مع البيض. فمانديلا كان واقعيا وسياسيا حصيفا لأنه أدرك أنه لا مناص من التفاوض مع البيض وضمان مستقبلهم في جنوب أفريقيا جديدة تسع الجميع، لأن البيض وبالرغم من إدراكهم لحتمية زوال نظام الفصل العنصري إلا أنهم ما زالت بيدهم مصادر قوة حقيقية تمثلت في ترسانة السلاح والسيطرة على مفاصل الإقتصاد بالإضافة إلى إمتلاكهم إمتداد وعمق خارجي قوي. ظل مانديلا يردد مقولته الشهيرة: (جنوب أفريقيا بين مخاوف البيض ومآسي الزنوج، قائلا إن في الخروج من هذا المأزق تكمن جنوب أفريقيا الجديدة) فكان له ما أراد إذ تمكن من إنجاز التسوية رغم بعض مآخذنا على تلك التسوية نجح مانديلا في طي عهود مظلمة من مآسي الفصل العنصري مرة واحدة وإلى الأبد. رواندا هى الأخرى كمثال آخر يحتزى به إستطاعت تجاوز مرارات الجينوسايد بواقعية وشجاعة عندما قرر الروانديون المضي في طريق المصالحة بصدق فأصبح الروانديون اليوم أكثر شعب ينبذ القبلية والعنصرية في قارتنا السمراء وهو ما أهل رواندا للنهوض والتقدم على كثير من دول القارة في التعليم والإقتصاد وفي التنمية. ودونكم أيضا جمهورية ألمانيا الإتحادية التي مرت بعصر الرايخ وتجربة النازية والهولوكوست والحربين العالميتين لتصبح أقوى إقتصاديات العالم بفضل تجاوز العنصرية وتجاوز مفهوم تفوق الجنس الآري. شعوب أوربا أيضا تعلمت وإعتبرت من حرب الثلاثين عاما فتوافقت على مفهوم الدولة الوطنية الحديثة التي نشأت بموجب معاهدة ويستفاليا في العام ١٦٤٨. كما تعلمت الشعوب الأوربية من الثورة الفرنسية التي ألهمت الأوربيين وغيرت مجرى التاريخ الحديث وأحدثت تأثيرات عميقة في أوربا والعالم. قادت الثورة الفرنسية إلى إنهيار الملكية المطلقة وإنهاء إستبداد الكنيسة وفصلت بين السلطة الزمنية والسلطة الروحية، ووضعت وثيقة حقوق الإنسان والمواطن التي أصدرتها الجمعية التأسيسية الوطنية الفرنسية وأعتبرت جميع مواد هذه الوثيقة مبادئ فوق دستورية، وشكلت وثيقة حقوق الإنسان والمواطن فيما بعد أساسا للإعلان العالمي لحقوق الإنسان التي تبنتها الأمم المتحدة في العام العاشر من ديسمبر ١٩٤٨. وضمنت كثير من دول العالم الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في دساتيريها كمبادئ فوق دستورية بوصفها تتويجا لنضالات البشرية عبر مئات السنين، ووفاءا وتكريما لملايين الضحايا الذين قدموا أرواحهم ثمنا لهذه المبادئ. لقد فتحت الثورة الفرنسية الطريق أمام نهضة وتقدم الشعوب الأوربية وهنا يكمن سر تفوق الأوربيين، بينما نحن في السودان ما زلنا نعيش خلف أسوار التاريخ بسبب العقلية الرجعية وعنصرية الأقلية الحاكمة. نحن في السودان لسنا إستثناء، وعلينا التعلم من تجارب الشعوب التي سبقتنا، ولا يمكن أن نظل أسرى لمرارات الماضي، كما لا يمكن أن نصر على إلغاء الآخر طالما هو واقع موجود على الأرض. فالعداوة مع الدعم السريع مثلا بالنسبة لنا هو جزء من الماضي طالما إقتنع بالواقع وحدث فيه تحول وهو على إستعداد لدفع إستحقاقات النضال لتفكيك السودان القديم وبناء سودان جديد. فليس من المنطق أن تظل العداوة مع الدعم السريع جزء من الحاضر والمستقبل. هكذا يجب أن تكون المقاربة والمعادلة بدلا عن مغالطة الحقائق وإنكار الواقع على الأرض.
برزت ردود أفعال وإنتقادات حادة من الرافضين لتحالف السودان التأسيسي على خلفية وجود قوات الدعم السريع كطرف أساسي فى ميثاق تحالف السودان التأسيسي والدستور الإنتقالي. وبما أن هذا التحالف قد أحدث حراكا سياسيا كبيرا في الساحة السياسية وأصبح محل إهتمام القوى السياسية والمدنية سوءا كانت من قوى التغيير أو قوى الثورة المضادة، فمن حق أى مواطن سوداني أن يتساءل وينتقد. لذلك كان لا بد من إحاطة القارئ والرأي العام للإلمام بمسوغات تحالف الحركة الشعبية مع قوات الدعم السريع ضمن الأطراف الموقعة على ميثاق تحالف السودان التأسيسي. ومن المهم أيضا إحاطة القارئ بمفهوم الحركة الشعبية للتفاوض والتحالفات كجزء من وسائل نضالها لتحقيق أهدافها وتحقيق مشروع السودان الجديد.
ظل التفاوض واحد من أهم وسائل نضال الحركة الشعبية لتحقيق أهدافها ورؤيتها منذ نشأتها كحركة تحررية، فالتفاوض في الأساس هو حوار أو موقف تعبيري ديناميكي (حركي) بين طرفين أو أكثر حول قضية يتم عرضها وتبادلها ومحاولة مقاربتها ومواءمتها وتكييف وجهات النظر فيها بإستخدام كافة وسائل الإقناع للحصول على المصالح والمنافع بشكل مرضي لأطراف التفاوض (a win-win agreement). والتفاوض في عالم اليوم يعد وسيلة متحضرة في التواصل والتفاهم الفعال للإتفاق على أفضل الأرضيات المشتركة والتفاهم البناء مع بني البشر على إختلاف ثقافاتهم وعقائدهم ومصالحهم. كما يساعد التفاوض في إحتواء وحل النزاعات التي تستنزف الوقت والموارد البشرية والمادية ولا تتناسب مع إيقاع العصر ومتطلباته على جميع الأصعدة. ولأهميته تطور التفاوض كفن وأصبح واحد من العلوم الإنسانية والإجتماعية المهمة التي تدرس في جامعات وكليات وبيوتات خبرة متخصصة. أما التحالفات فهي الأخرى ظلت واحدة من وسائل نضالنا الفعالة لتحقيق السودان الجديد، ومعلوم أن الحركة الشعبية لديها تجربة وخبرة وتاريخ طويل في هذا المضمار ما يؤهلها بالضرورة للتفكير خارج الصندوق إنطلاقا من فهمها العميق لطبيعة الصراع الحاصل في السودان وماكنيزمات/آليات إدارة المركز لهذا الصراع. ولكنها، أي الحركة الشعبية وكغيرها من قوى التغيير الحية دائما ما تضع في الحسبان رؤيتها وأهدافها الإستراتيجية عند دخولها كطرف في أى تحالف إستراتيجي أو تكتيكي، فضلا عن ضمان تحقيق مصالح الشعوب التي ظلت تناضل من أجلها، وبالتالي لا أحد يملي عليها ماذا تفعل ومع من تتحالف ومتى. الحركة الشعبية تتفهم أسباب ودوافع صراخ وعويل المصدومين والموجوعين من ميلاد تحالف السودان التأسيسي، خاصة عندما يأتي هذا الصراخ من سدنة المركز وحرسه الأيديولوجي وأبواقه. فقد تفاجأ هؤلاء أن الرؤية والمبادئ والأهداف التي ظلت تناضل الحركة الشعبية لتحقيقها قد تم تضمينها في ميثاق تحالف السودان التأسيسي والدستور الإنتقالي لجمهورية السودان لسنة ٢٠٢٥ الذي سيحكم حكومة السلام والوحدة الوطنية المرتقبة والتي ستحظى على الأرجح بإعتراف وسند وتأييد معتبر على الصعيدين الإقليمي والدولي واضعين في الإعتبار أن نجاحها في كسب التأييد والدعم يعتمد على قدرة حكومة السلام والوحدة الوطنية على إقناع اللاعبين الفاعلين. فكرة الحكومة الموازية ليست فكرة جديدة، فهناك تجارب وسوابق كثيرة في العالم لحكومات أمر واقع نشأت في عدة دول في ظروف إستثنائية شبيهة لما يحدث في السودان بسبب الإحتلال والحرب الأهلية أو إنهيار الدولة. تشكل المبادئ والأهداف التي نص عليها ميثاق تحالف السودان التأسيسي والدستور الإنتقالي لجمهورية بسنة ٢٠٢٥ في مجملها أساسا لمشروع السودان الجديد الذي يمثل برنامج الخلاص الوطني لكل السودان، وهو ما لم يحدث تحقيقها بهذا القدر في أي من تحالفات الحركة الشعبية السابقة والتي كان أبرزها تحالف التجمع الوطني الديمقراطي NDA بميثاقه التأسيسي ومقررات مؤتمر أسمرا للقضايا المصيرية ١٩٩٥. لذلك تدرك قوى المركز جيدا خطورة هذا التحالف بإعتبار أن الوثيقتيت (ميثاق تحالف السودان التأسيسي والدستور الإنتقالي لجمهورية السودان لسنة ٢٠٢٥) مع توحيد البندقية وإعلان حكومة السلام والوحدة الوطنية كحكومة موزاية ذات شرعية إنتقالية تفتقدها سلطة بورتسودان هي آليات كفيلة بتفكيك السودان القديم وتشييعه إلى مذبلة التاريخ وفتح الطريق أمام بناء السودان الجديد.
الحركة الشعبية من حقها التحالف مع كل من يلتقي معها في تفكيك السودان القديم كهدف مركزي وشرط ضروري لبناء السودان الجديد، فما الذي يمنعها من التحالف مع قوات الدعم السريع كقوة موجودة على الأرض تقوم عمليا بتفكيك المركز وقد إقتنعت بضرورة العمل معنا ومع حلفاءنا وقوى التغيير الحية لبناء السودان الجديد؟ ولعل الحقيقة التي يعلمها القاصي والدانى هي أن الحركة الشعبية ليست من صنعت قوات الدعم السريع إبتداءا حتى تتحمل وزر وجودها، كما لم تكن جزءا من القوى السياسية المعلومة التي إعترفت بقوات الدعم السريع وعملت على شرعنتها رسميا في الوثيقة الدستورية إبان الفترة حكومة الإنتقالية التي أعقبت ثورة ديسمبر عندما كانت تبح حلاقيم شباب ثورة ديسمبر : (العسكر للثكنات والجنجويد يتحل) لكنهم أداروا لهم ظهورهم وصموا آذانهم وقتها. بيت القصيد أن العدواة مع الدعم السريع كما ذكرت في الجزء الأول من المقال هو جزء من الماضي ولا يجب أن تستمر كجزء من الحاضر والمستقبل. نحن لم نحارب بأجندة عنصرية وإنتقامية أو إسئصالية، وليس من أهدافنا إستئصال أي آخر ثقافي أو عرقي أو ديني، فهذا ليس من أخلاق الثوار، لكن هذا ما يريده المركز بالضبط حسب طبيعته العنصرية لأنه يخدم خطه وأهدافه ومصلحته في عدم توحيد نضال وبندقية قوى الهامش ضده لإنتزاع حقوقه السياسية والإقتصادية والإجتماعية. لذا يتوجب علينا التركيز على مهمتنا الأساسية المتمثلة في توحيد نضالات قوى التغيير وقوى السودان الجديد وتوحيد بندقية الهامش في مواجهة مركز السلطة الذي ظل ينتج السياسات التي ولدت الحروب…..علينا تدمير المصنع الذي ظل يعمل على صناعة وتفريخ المليشيات حتى نوقف سياسة الأرض المحروقة والإبادة الحسية والثقافية ضد أي من شعوب الهامش. علينا فعل كل ما بوسعنا لتحييد طيران سلطة بورتسودان التي تحصد أرواح شعبنا بصورة يومية، كما علينا منع سلطة بورتسودان من نهب ذهب وبترول وثروات وموارد الهامش لتقوية آلتها العسكرية وإطالة عمر سلطتها الفاقدة للشرعية. علينا الاصدي لذبح المواطنين العزل بشكل يومي على أساس عرقي وعنصري بموجب قانون الوجوه الغريبة. نحن ندرك أن هذا الصراخ والعويل إنما هو نتاج طبيعي لتحسس الخطر والشعور ببروز تهديد وجودي حقيقي Real existential threat، لكن بالطبع عندما يصرخ السدنة ويبكي الحرس الأيديولوجي للسودان القديم بحرقة شديدة هكذا فتأكد أنك تسير في الإتجاه الصحيح، وأعلم أنه التخندق في الهيمنة للمحافظة على الإمتيازات التاريخية كما الطفل الذي يقاوم الفطام لأن الجاك لن يقبل بهدم البيت الذي بناه الجاك.
صفوة القول وبيت القصيد: (تظل الحقيقة المرة والصادمة لأعضاء النادي السياسي القديم هي أن السودان القديم قد إنكشفت عورته وإنتهت دورته وفقد مبررات وجوده وإستمراره، ولا مخرج إلا سودان جديد يسع الجميع، ولا عودة من منتصف الطريق).
إنهال الحرس الأيديولوجي للسودان القديم وأبواق المركز بالنقد والهجوم على تحالف السودان التأسيسي بالتركيز على الحركة الشعبية مستندة على فرضيات غير واقعية وخطاب عاطفي وتعبوي مبتذل قبل التريث والإطلاع على ميثاق التحالف والدستور الإنتقالي لجمهورية السودان لسنة ٢٠٢٥. نحن نحترم رأيهم وموقفهم أيا كان، لكن ما يثير السخرية كون نقدهم لا يرتكز على حيثيات موضوعية. سأسلط الضوء في الجزء الثالث والأخير من المقال على أهم الأهداف والمكتسبات التي تكمنت الحركة الشعبية وحلفاءها في قوى تحالف السودان التأسيسي من تحقيقها بالتركيز على الدستور الإنتقالى لجمهورية السودان لسنة ٢٠٢٥ هذا الدستور الذي خاطب جذور المشكلة بوضوح ونص على أهم القضايا الدستورية والتأسيسية التي فشل الآباء المؤسسين والنخب السياسية في مخاطبتها منذ الإستقلال، وأذكر منها في هذا المقال على سبيل المثال لا الحصر:
أولا: الهوية الوطنية للدولة:
ورد في الباب الأول (طبيعة الدولة) من الدستور الإنتقالي لجمهورية السودان لسنة ٢٠٢٥ في المادة (٤)، الفقرات (١ – ٢ – ٣) أن السودان دولة علمانية ديمقراطية لا مركزية ذات هوية سودانوية تقوم على:
١. فصل الدين عن الدولة
٢. فصل الهويات الثقافية والعرقية والجهوية عن الدولة
٣. المواطنة المتساوية كأساس للحقوق والحريات والواجبات
فلأول مرة في تاريخ السودان يتم النص دستوريا وبشكل واضح وصريح على مادة تخاطب وتعالج مشكلة الهوية الوطنية بشكل جذري وموضوعي، وذلك لأن مكونات تحالف السودان التأسيسي واعية بطبيعة المشكلة ومدركة أن الحروب التي دارت وما زالت تدور في السودان بكل إفرازاتها وإنتهاكاتها وفظائعها من قتل وإبادة جماعية وتنزيح وتهجير قسري ولجوء ومأساة إنسانية، بالإضافة إلى تنامي وشيوع خطاب الكراهية لدرجة إقدام السوداني على ذبح ونحر مواطن سوداني مثله وأكل أحشائه والتمثيل بجثته وهو يكبر ما هي إلا تمظهرات للمشكلة الحقيقية وهي صراع الهوية Conflict of identity. وبسبب صراع الهوية سبق وأن قتلت الدولة أكثر من إثنين مليون مواطن جنوبي ودفعت جزء عزيز من البلاد دفعا إلى الإنفصال. أعلنت الدولة لذات السبب العنصري الجهاد على شعب النوبة وإرتكبت الإبادة الجماعية ضد الزرقة في إقليم دارفور. وبالإتفاق على السودانوية يكون تحالف السودان التأسيسي قد نجح في إعادة تعريف الهوية الوطنية على أساس موضوعي ومنطقي مقبول لكل مكونات السودان، وتجاوزت الهوية الأحادية الإقصائية التي فرضت قسرا على كل شعوب السودان، وهي هوية قائمة في الأساس على مغالطة وإنكار حقائق التنوع التاريخي والتنوع المعاصر. ما تم التوافق عليه في هذه المادة يمثل رؤية الحركة الشعبية لمعالجة مشكلة الهوية الوطنية ويعبر عن طرحها لنظرية الوحدة في التنوع في مواجهة نظرية بؤتقة الإنصهار التي تمثل خط السودان القديم وتوجهاته التي تبدو واضحة في مناهج التعليم والإعلام والقوانين وفي السياسة الخارجية. الشاهد أن المهمة الرئيسية للدبلوماسية السودانية في كل الحكومات والأنظمة التي تعاقبت على حكم السودان ظلت قائمة على إنتزاع السودان من سياقه الأفريقي وتعريفه وتقديمه للعالم كدولة عربية إسلامية، وهذا ما يفسر سر تعيين منسوبي وزارة الخارجية واطقم سفارات السودان وبعثاته الدبلوماسية ممن تتسق سحناتهم وألوانهم وإنتماؤهم الإثني مع طبيعة المهمة الرئيسية للدبلوماسية السودانية.
ثانيا: علاقة الدين بالدولة: لأول مرة أيضا يتم النص دستوريا وبصورة صريحة على أن السودان دولة علمانية ديمقراطية تقوم على فصل الدين عن الدولة. هذا النص الدستوري حسم المغالطات الطويلة والجدل العقيم حول قضية علاقة الدين بالدولة بصورة جذرية، ومنع تسييس الدين وإقحامه في المجال العام (فصل السلطة الزمنية عن السلطة الروحية). ظلت مؤسسة الجلابة تستخدم الدين كأداة في الصراع السياسي لتكريس القمع والقهر، وفرضت الدين كواحد من محددات الهوية الوطنية، وكمصدر رئيسي للتشريع في السودان، وخلقت بذلك ترسانة قوانين لإخضاع الآخر الديني والثقافي والعرقي وإذلال الأغلبية المهمشة وحماية الإمتيازات التاريخية لذلك كان لا بد من منع الأقلية الحاكمة دستوريا من إستخدام هذا الكرت.
ثالثا: يعتبر النص على المبادئ فوق الدستورية في المادة (٧) من الدستور الإنتقالي لجمهورية السودان لسنة ٢٠٢٥ خطوة متقدمة في إتجاه تحقيق الإستقرار الدستوري لأول مرة، وبهذه الخطوة نكون قد إستلهمنا تجارب وسوابق دول وشعوب وأمم كثيرة تعلمت وإعتبرت من تجاربها المريرة الشبيهة بتجربة السودان وتمكنت من تجاوزها بالتوافق على مبادئ فوق دستورية كأحكام وقواعد أعلى مرتبة من الدستور، ملزمة وعابرة للأجيال ومحصنة ضد الإلغاء والتعديل أو التعطيل حتى من قبل الأغلبية. كما نص الدستور الإنتقالي على أنه في حال تقويض أيا من المبادئ فوق الدستورية يحق لكل إقليم المقاومة واللجوء إلى ممارسة حق تقرير المصير، لأن الهدف الأساسي من المبادئ فوق الدستورية في أي دولة توافقت على مبادئ فوق دستورية هو منع طغيان الحكام وإستبداد الأغلبية كما يقول أحد فقهاء القانون الدستوري في الولايات المتحدة الأمريكية صاحبة أقدم وأول دستور مكتوب في العالم: (إن كل تراثنا الدستوري يتمحور حول فكرة عدم إعطاء الدولة أي قوة للسيطرة على عقل وضمير الفرد). هنا يكمن سر تقدم الولايات المتحدة الأمريكية وتفوقها على جميع دول العالم لتصبح قوة خارقة Superpower بفضل قدرتها على إدارة التعدد والتنوع والتوافق على مبادئ فوق دستورية والتي تجسدها وثيقة الحقوق (Bill of rights) في الدستور الأمريكي والتي تطلق عليها (Inalienable rights بدلا عن Supra-constitutional principles). وجاء أيضا على لسان أحد فقهاء القانون الدستوري في الولايات المتحدة الأمريكية ما يؤكد أن المبادئ فوق الدستورية مبادئ ملزمة وعابرة للأجيال قوله: (أن الناس الذبن أسسوا الولايات المتحدة الأمريكية هم أناس أحرار فكريا فروا من جحيم الإستبداد والطغيان الفكري لملوك وقساوسة القرون الوسطى في أوربا – فهل يمكن أن يتركوا لأجيال المستقبل المجال لكي ينحرفوا نحو الطغيان مرة أخرى؟!….وإستطرد قائلا: لقد فتح المشرعون الأوائل بابا للحرية، ولم لا؟! ولن يستطيع المشرعون اللاحقون سده بأي حال من الأحوال).
رابعا: نصت المادة (٤٦)، الفقرات (١ – ٢ – ٣) من الدستور الإنتقالي على مبدأ العدالة والمحاسبة التاريخية وإجراءات الحقيقة والمصالحة، لكن ليس على هدى تجربة مؤتمر كوديسا في جنوب أفريقيا كما كان يريد الإمام الصادق المهدي إستغفال الضحايا وتمييع قضيتهم العادلة. إذ يحدد القانون وفقا للدستور الإنتقالي أشكال ومستويات ووسائل العدالة والمحاسبة التاريخية والتي تشمل المحكمة الجنائية الدولية، الأمر الذي يضمن عدم الإفلات من المحاسبة والعقاب في الجرائم التي أرتكبت في حق الوطن والمواطن، وضمان الإقتصاص للضحايا.
خامسا: المادة (٩٢): الأجهزة النظامية:
حسمت هذه المادة مسألة تأسيس جيش وطني جديد موحد. جيش مهني وقومي بعقيدة عسكرية وطنية جديدة، على أن يعكس في تكوينه كافة أقاليم السودان على أساس التوزيع السكاني العادل ويكون مستقلا عن أي ولاء أيديولوجي أو إنتماء سياسي أو حزبي أو جهوي. وحدد الدستور الإنتقالي أن دور الجيش الوطني يقتصر على حماية البلاد وأراضيها وسيادتها الوطنية وحماية الشعوب السودانية وحماية النظام العلماني الديمقراطي وضمان إحترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية وحماية النظام الدستوري، دون تدخل في الشأن السياسي أو الإقتصادي. هذه المادة حددت بصورة واضحة شكل الجيش الوطني وعقيدته العسكرية ومهامه حتى يطمئن السودانيون أنه جيش وطني يمثلهم جميعا، وليس جيش مؤدلج ومسيس تستخدمه الأقلية الحاكمة كأدة للقمع وتكريس مشروعية العنف وحراسة الإمتيازات التاريخية.
سادسا: جاء في المادة (٦) من الدستور الإنتقالي: (تؤسس وحدة السودان على الوحدة الطوعية والإرادة الحرة لشعوبه وإحترام التنوع والتعدد العرقي والديني والثقافي والمساواة بين جميع الأفراد والشعوب في الحقوق والواجبات). لقد أرست هذه المادة أساسا متينا لوحدة جاذبة يمكن أن يفخر بها كل سوداني ويدافع عنها كوحدة عادلة، لكن من يصرون على الوحدة القسرية القديمة وحدهم هم الإنفصاليون الحقيقيون لأن الوحدة لا تبني بالقهر والعنصرية.
بيت القصيد أن الدستور الإنتقالي لجمهورية السودان لسنة ٢٠٢٥ قد أجاب على كل الأسئلة الدستورية والتأسيسية المسكوت عنها منذ العام ١٩٥٦، وخاطب جذور المشكلة السودانية بوضوح وعمل على تضمين كل الحقوق السياسية والإجتماعية والإقتصادية لشعوب الهامش، ونص على المواطنة المتساوية كأساس للحقوق والحريات والواجبات للمواطنين السودانيين دون تمييز. وبذلك يكون هذا الدستور الإنتقالي قد وضع أساس لعقد إجتماعي وأرسى قاعدة جديدة للقبول بالعيش المشترك بين كل الشعوب السودانية، ومهد الطريق أمام السلام الشامل والعادل.
هكذا تمضي الحركة الشعبية بوجودها كقوة رئيسية ولاعب من العيار الثقيل في تحالف السودان التأسيسي بخطى واثقة في النضال من أجل تحقيق مشروع السودان الجديد الذي طالما ناضلت من أجله لأكثر من أربعين عاما ولن تحيد عنه.
وبهذا الدستور الإنتقالي يكون تحالف السودان التأسيسي كأكبر تحالف سياسي وعسكري في تاريخ الحركة السياسية السودانية قد نجح في وضع الكرة في ملعب شعوب الهامش وقوى التغيير الحية وكل المتضررين من الأوضاع القائمة فى السودان لإقتناص هذه الفرصة والوقوف في الجانب الصحيح من التاريخ لنيل شرف المساهمة في إعادة السودان إلى منصة التأسيس وبناء سودان جديد موحد يسع الجميع.