كتب:حسين سعد
علي إمتداد الحقول الخضراء كأجنحة ذاكرةٍ لا تموت، يقف المزارع في مشروع الجزيرة والمناقل بين صفّين من اليأس والأمل… يراقب أرضًا كانت يومًا تُطعم البلاد وتكسو خيراتها المدن والقرى، فإذا بها اليوم تتقلب على صفيحٍ ساخن من الإهمال وغلاء المدخلات الزراعية وغياب السياسات الداعمة للمزارع هنا، في هذا المشروع الذي كان يُضرب به المثل في الإنضباط والدورة الزراعية والري الهندسي، صار صوت المزارع أخفض من ضجيج السوق، وصار عرقه أغلى من عائد محصوله، وصارت أحلامه معلّقة بين سماء لا تمطر ودولة لا تنظر، وسوق لا يرحم، فالمزارع في الجزيرة لا يبحث عن رفاهية، بل عن حدٍ أدنى من العدالة، قيمة لتعبه، وسعرٌ مُنصف لمحصوله، ودعمٌ يصل إلى يده لا إلى جيوب غيره، وطرقٌ لا تُبتلعها الأمطار، وقنوات ري لا يخنقها الطمي، وسوقٌ لا يتركه فريسة للتجار والوسطاء، اليوم، يتكرر المشهد المؤلم: مزارعٌ يخرج في الصباح إلى أرضه ليرويها بما تبقى من ماء الديون، ثم يعود في المساء ليحسب خسارته قبل أن يحسب أرباحه مزارعٌ يزرع ليعيش، لكنه يعود من الموسم مثقلاً بالهموم والسلفيات، وكأن الأرض التي ورثها عن الأجداد تحولت إلى عبء بدل أن تكون مصدر حياة.
المزارع يقف وحيدًا:
إن ما يحدث في الجزيرة والمناقل ليس مجرد تراجع موسمي أو فشلٍ عابر، بل هو انهيار هيكلي يهدد الأمن الغذائي للسودان كله، ومع ذلك، لا يزال المزارع واقفًا، يحمل معوله كمن يحمل بندقية، ويقاتل من أجل بقاء الأرض، وكأن جذور القطن والقمح في داخله أقوى من أي أزمة، هو لا يريد معجزة، بل يريد دولة تستمع… وسوقًا تنصف… وسياساتٍ تمطر قبل أن تمطر السماء، وقتها فقط يمكن للجزيرة أن تنهض من جديد، وتستعيد ما فقدته من مكانة وشموخ، وسط المشهد الاقتصادي السوداني يقف المزارع في مشروع الجزيرة والمناقل كعنصرٍ مُهمّش، رغم أنه حجر الأساس في دورة الإنتاج والحياة، فالاقتصاد الزراعي في السودان لم يعد قطاعًا تقليديًا، بل أصبح معيارًا لقدرة الدولة على الصمود أمام الأزمات وركيزة للأمن الغذائي. ومع ذلك، لا يزال المزارع السوداني يعاني من تهميش اقتصادي يحرم جهوده من التحول إلى قيمة حقيقية.
تراجع العائد الزراعي:
المزارع بالجزيرة يشتكي من إرتفاع تكاليف الإنتاج مقابل انخفاض الأسعار وضعف الحماية السوقية وهذا يكشف معادلة قاسية، كل المدخلات ترتفع أسعارها — من البذور إلى الأسمدة والوقود وأجور العمال — بينما تبقى أسعار المحاصيل في أدنى مستوياتها، المزارع الذي ينتظر الموسم ليستعيد ما أنفق، يجد نفسه في نهاية المطاف محاصرًا بالديون، لأن السوق بلا حماية والوسيط هو المستفيد الأكبر، في ظل غياب سياسات تسعير عادلة وتدخل حكومي منظم، تُترك الأسعار تحت رحمة التجار، ويصبح المزارع الحلقة الأضعف رغم أنه أساس سلسلة القيمة الزراعية، إن هذه المفارقة لا تهدد المزارع وحده، بل تضرب الأمن الغذائي السوداني في العمق في ظل ، غياب الحماية والسياسات الداعمة في كثير من الأحيان، في ذات الوقت تتعامل الدولة مع الزراعة وكأنها ( صندوق جباية) لا جزء من الاقتصاد الوطني، وما نقصده بالحماية الزراعية ليست دعمًا ماليًا فقط، بل هي منظومة تشريعية لضبط الأسعار وضمان العدالة بين المزارع والتاجر والمستهلك، غياب هذه المنظومة جعل المزارع بلا قوة تفاوضية، وتحت رحمة سوقٍ عالمي لا يرحم الضعفاء، وتراجع العائد الزراعي لا يقتصر على المزارع وحده، بل يشمل الريف كله تراجع حركة التجارة، ضعف الإنفاق، ركود الحياة، وهجرة الشباب من القرى إلى المدن، هكذا تتحول القري المنتجة إلى أماكن طاردة، وتفقد المجتمعات الريفية روحها الاقتصادية والاجتماعية، إنقاذ المزارع يتطلب هيكلة كاملة لمنظومة الإنتاج والتسويق، وسياسات تسعير عادلة، وتمويلًا ميسرًا، وحماية حقيقية من تقلبات السوق، لانه وببساطة عندما يشعر المزارع أن جهده مثمر، تعود الحياة إلى الأرض والاقتصاد الريفي، ويقول محمد حسن عثمان مزارع في القسم الشمالي بمشروع الجزيرة والمناقل ان الدعم الزراعي في السودان موجود في الأوراق فقط ، لكنه لا يصل إلى يد صغار المزارعين ، بل يذهب الدعم غالبًا إلى الشركات الكبيرة وكبار المزارعين أو المنتمين لحزب المؤتمر الوطني سابقاً، بينما يُترك المزارع الصغير في مواجهة البيروقراطية، بلا ضمانات ولا قدرة على إعداد الملفات المطلوبة، وأضاف هذا الدعم تحول من دعم الإنتاج إلى دعم النفوذ تحوّل الدعم من وسيلة لتحقيق العدالة الزراعية إلى أداة تخدم شبكات المصالح، حيث تُمنح القروض التمويلية بعلاقات لا بإنتاج، وتتحول العدالة إلى شعار يخفي واقعًا من التمييز غير المعلن؟
المزارع لا يطلب المستحيل :
إن ما يعيشه مشروع الجزيرة والمناقل اليوم ليس موسمًا سيئًا، بل أزمة بنيوية تهدد الأمن الغذائي وتدفع المزارعين إلى حافة الانهيار، فالمزارع لا يطلب المستحيل: يريد دولة تستمع، وسوقًا عادلة، ومدخلات إنتاج سليمة لا مغشوشة، ومؤسسات تحميه لا تثقل كاهله، وحتي تستعدل هذه الوضعية الظالمة لصغار المزارعين يمكن للجزيرة أن تستعيد مجدها القديم، لكن حتى ذلك الحين، سيظل المزارع السوداني يقف وحده في مواجهة موسمٍ بلا دعم، وسماء بلا وعد، وسوق بلا عدالة (يتبع)
الجزيرة عطشى… ليس للماء بل للعدالة والسياسات الرشيدة(4)
مقالات ذات صلة

