الجميل الفاضل يكتب: “تقشير البصلة”، فخٌ خفي أوقع الحركة الإسلامية في لعبة الكبار (2)
ولكي نفهم بالضبط طبيعة ونوع “الفخ الاستراتيجي” الذي وقعت فيه الحركة الإسلامية باشعالها لهذه الحرب، كان لابد من مراجعة دفاتر التاريخ، الذي امتلأت صفحاته بتجارب مماثلة أوقعت قادة كبار، ودولا عظمي، وحركات أكثر شراسة وراديكالية، استدرجت كلها إلى فخاخ أعدّت بدقة، فقط لتُستنزف، وتُحاصر، ثم تُكسر دون أن تدرك هي كيف حدث ذلك، ولماذا؟.
فخ دبلوماسي:
ومن أشهر هذه الفخاخ بالطبع “فخ الكويت” الذي أوقعت به السفيرة الأمريكية في بغداد ابريل كاثرين غلاسبي، الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، في فخ هو واحد من أكبر الفخاخ الإستراتيجية الناعمة.
فقد سكبت غلاسبي عبارة سامة في إذن صدام بقولها:
«رأيُنا هو أن عليكم انتهاز الفرصة لإعادة بناء بلدكم، وليس لنا رأي في الصراعات العربية ـ العربية، مثل خلافكم الحدودي مع الكويت».
اتي قولها ردا علي شكوي صدام من أن الكويت تسرق النفط العراقي.
وان هذه هي الأدلة، لتردف السفيرة الماكرة بالقول: نعم، الكويت مخطئة في هذا الشأن، ليستطرد صدام مجددا بأن العراق لن يسكت وسيتصرف، لترد غلاسبي: “لا يعني أمريكا ماتفعله دولة عربية بدولة عربية أخرى”.
علي أية حال، فقد كان دخول الكويت هو الطعم الذي استدرج به صدام الي المحرقة.
فضلا عن علامات وإشارات أخري تؤكد أن الولايات المتحدة أعطت ضوءا أخضرا خافتا تابع صدام خيطه الواهي فاوقعه حتف أنفه في “فخ الكويت”.
وللحقيقة فان أضواء أمريكا الخضراء ربما يكتشف لاحقا في نهاية النفق الذي تقود اليه، أنها ليست خضراء تماما.
فخ انهيار امبراطورية:
وفي سجل هذه التجارب انظروا الي تجربة مثيرة أخري، هي تجربة الاتحاد السوفيتي، القوة العظمى التي لا تُقهر، حين تورط في غزو أفغانستان.
بمظنّة أنه يدخل لإعادة ترتيب بلد مضطرب، لكنه في الحقيقة كان يدخل مستنقعًا أعدّته له المخابرات الغربية، تحديدًا بريجنسكي، مستشار الأمن القومي الأمريكي حينها، الذي قال لاحقًا بكل فخر: “أعطيناهم فيتنامهم الخاصة”.
أنها حرب دامت عقدًا، أنهكت الاقتصاد، وخلخلت الروح، وكانت من إحدي مسببات انهيار هذه الإمبراطورية.
الإفراط في التدمير الممنهج:
أو حتى حركة حماس في السابع من أكتوبر الماضي، حين قررت تنفيذ أكبر هجوم عسكري في تاريخها، تظن أنه سيكون ضربة حاسمة لتل أبيب.
لكن الرد الإسرائيلي جاء مفرطًا في التدمير وبشكل ممنهج، ليبدأ بعدها استنزاف طويل لها ولسكان القطاع، من خلال مواجهات معقدة ذات كلفة إنسانية وسياسية هائلة، لتُغلق معها نوافذ كثيرة كانت مفتوحة سابقًا أمام حماس.
ويبدأ الفخ بخطوة:
وهكذا.. في كل حالة، يبدأ الفخ بخطوة واثقة من الخصم، تتبعها دائما ردة فعل ساحقة، لا لأن الخصم خصم ضعيف، بل لأنه لم يفهم فقط أن نوع هذه اللعبة أوسع من خياله وإدراكه، وأنه قد بات بالفعل في موقع الطُعم لا الصياد.
المراقبون عن كثب:
أما اليوم، فالحركة الإسلامية تقف أيضاً في موضع شبيه.
ظنت أن بإمكانها الانقضاض على التحول الديمقراطي، وأن بإشعالها الحرب ستُدفن الاتفاقيات ومن وقعوها، وأنها ستغلق أبواب مثل هذا التفاوض بالمرة وإلي الأبد.
لكنها لم تأخذ في الحسبان أن أطرافا دولية، وإقليمية، كانوا يراقبون المشهد عن كثب، ينتظرون لحظة سقوط هذا القناع عنها بالكامل، لكي يبدأوا مهمتهم التي لم تنته بعد.
حرب استنزاف طويلة:
المهم فإن الحركة الإسلامية،لم تُهزم الي الان بالضربة القاضية، لكنها أُنهكت في معركة ظنتها نزهة، فإذا هي حرب استنزاف طويل وبطيء، يُقشر حضورها في المشهد كما البصلة، طبقةً إثر طبقة.
إنه الفخ اذن في أقسى صوره: حين يختار العدو بنفسه طريق نهايته، وهو يظن أنه يمضي في طريق نصر.
فقد خاضت الحركة حربًا ظنت أنها خاطفة، فطالت.
ثم راهنت على نفوذها العميق، فتكشف أمامها في ساعة الحسم، بؤسه وتراجعه، كظل منحسر.
عادت لتجتر خطاب الجهاد القديم، فازدادت عزلة عن محيطها وعن من حولها.
لتتحول بأمر الواقع من لاعب سياسي نافذ، إلى جسم عالق في “فخ استراتيجي” لم تدرك أبعاده وحدوده إلا بعد فوات الأوان.
وللدقة هو فخ لم يكن فخا عسكريًا فقط، بل سياسيًا واقتصاديا وبشريا بل ومعنويا ونفسيًا أيضًا.
الإطاري إختبار نوايا:
فالاتفاق الإطاري، الذي بدا كأنه ورقة تسوية، كان في جوهره اختبارًا للنوايا ولعبة استدراج، كشف أولا عن زيف التزام الجيش الذي أعلن انحيازه للثورة بالتحول الديمقراطي.
ولذلك هو إتفاق بمجرد أن وقعه الجيش والدعم السريع مع بعض أطراف الحرية والتغيير بالأحرف الأولي، قفز الإسلاميون من الظل إلى العلن، وبالعطس المستمر عبر حملة “الإفطارات الرمضانية” ما أن اشتموا رائحة “شطة” الزوال.
فصاروا كمن يستعد لمعركة فاصلة، في حين أنهم لم يدركوا أنهم قد استُدرجوا عن قصد، ليحرقوا ورقة توتهم الأخيرة.
خيار التدمير الشامل:
ومع انفجار الحرب، أعادت الحركة الإسلامية إنتاج أدواتها القديمة: الكتائب، بجلالاتها وخطابها الجهادي، التعبئة، الوعيد والتهديد، بربرية القتل الوحشي..
لكنها وجدت نفسها أمام مجتمع دولي قد تغير، وبيئة إقليمية أكثر تشددًا، وشارع سوداني يرفض خيارها الأول، أعادها الآن ربما الي الشق الثاني من شعارها الصفري المغلق: “إما تسليم كامل أو تدمير شامل”.