الجميل الفاضل يكتب : عين على الحقيقة التشظّي الهوياتي، مقدمة لذوبان الدولة؟!
للإخوان المسلمين تجربة غريبة للغاية في السودان؛ فقد رقّعوا دنياهم بتمزيق دينهم، فلا دينهم – بالنتيجة – بقي، ولا ما رقّعوه من دنيا في ثلاثين عامًا أو يزيد، ظلّ كما هو.
لكنّ الأدهى وأمرّ، ها هم اليوم يكرّرون ذات الكرة على الدنيا ذاتها، التي عملوا لها فأفسدوا بها دينهم ودنيا الناس معهم، بادئ ذي بدء، والتي عادوا اليوم لمغازلتها من خلال محاولاتهم المستميتة لاستعادة عرش سلطتهم المفقود، “زهرة دنياهم”، عبر انقلاب البرهان الفاشل، ومن خلال حربهم الحالية التي قضوا بها على كلّ أخضر ويابس، أملاً فقط في ترقيع سلطانهم الذي نُزع بأمر الله، حتى لو بتمزيق ما تبقّى من البلاد، كما فعلوا من قبل في الجنوب.
وللحقيقة، فلا البلاد التي ينازعون اليوم الحكم عليها ستبقى، ولا ما رقّعوه من سلطانٍ مهترئ وممزّق بانقلاب البرهان سيستقرّ لهم، هو كذلك.
على أية حال، هي تجربة أليمة ومحزنة، توقّع المفكر د. منصور خالد قبل رحيله أن تقود – في آخر المطاف – إلى ذوبان الدولة بالكامل، قائلاً:
“إن وضعنا نُصب أعيننا تجربة انفصال الجنوب، واستعار الحروب في الغرب والوسط، لأدركنا أن تراكم هذا الفشل سيقود حتمًا إلى واحد من شيئين: الأول هو الحساسية من النجاح، والثاني هو ذوبان الدولة.”
محذّرًا في الوقت ذاته من أن كلا الداءين سيسيران بنا – لا محالة – في طريق طُراد نحو الهاوية.
وبالقطع، فإن ما نرصده من تصدّعات داخل البنية العسكرية والسياسية والاجتماعية، يوحي بأننا قد اقتربنا في هذه اللحظة من قاع الهاوية، ومن ثمّ، من حالة ذوبان الدولة.
فقد تتلاشى حتي مظاهر هذه السلطة المركزية الزائفة تدريجيًا تبعًا لتفاعلات هذا الواقع، مفسحةً الطريق لقيام مجتمعات أمنية جديدة على أنقاض الدولة القومية الآيلة للسقوط.
وبطبيعة الحال، فإن أي تصدّع أو انهيار أو ذوبان للدولة سيجرّ، بعد السقوط والتلاشي، إلى تفكك في التحالفات القائمة، وتبدُّل كبير في خارطة الولاءات الحالية.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه الآن: هل سيقود فشل الدولة المركزية إلى تشظٍّ هوياتي أوسع، بحيث تلجأ جماعات هذا المركز الوهمي، المتناقضة مصلحيًا فيما بينها ومع غيرها، إلى الجهة أو القبيلة أو العِرق كملاذ أمني أخير؟
لتنشأ من ثمّ مجموعة من الوحدات الهوياتية التي تتفاعل على مستويات متعددة من الأمن: العسكري، والسياسي، والاقتصادي، والمجتمعي.
تظهر هذه الوحدات، عند انهيار مظهر الدولة المركزية، في شكل “وحدات صغيرة” تنخرط في علاقات أمنية تتجاوز الدولة، وقد تتعدى حدود السيادة نفسها، علي قرار العلاقة بين حركات الشرق الجديدة وأسمرا.
فمثل هذه الكيانات، التي كانت مكبوتة داخل بنية الدولة الصلبة، ستسعى في مرحلة لاحقة إلى تأمين نفسها أولًا، لا عبر الدولة أو في إطارها، بل من خلالها وضدها في آنٍ معًا.
وهنا يظهر نموذج “الهويات كمصادر للأمن”؛ إذ قد تصبح ميليشيات القبائل والمناطق القائمة اليوم — مثل “مشتركة”، و”كيكل”، ومقاومات شعبية مناطقية مختلفة — المصدرَ الوحيد لاحقًا للشعور بالأمن والحماية في نطاق الانتماءات الخاصة بتلك المكونات.
وقد نعيش مرحلة يصبح فيها الأمن قضية تُدار بين وكلاء يعملون “تحت الدولة” وخارج منظومة القيادة والسيطرة؛ لا أحد فيهم يحرص على العمل للحفاظ على الدولة ذاتها، بل يسعى لاحتكار العنف ضمن فضاء معين من الفوضى.
وبالضرورة، فإن بورتسودان، التي تمارس حاليًا إفلاتًا — ربما متعمدًا — لهذا العقال، لن تكون حينذاك صانعة الحدث بأي حال من الأحوال.
لتصبح البلاد، من ثم، مجالًا لإعادة تعريف ما تعنيه الدولة، وما يُعبر عنه بالسيادة، والأمن، والحدود.
وقد تعبر عن هذا جماعات لا يمكن تصورها الآن، ستظهر لا محالة من بين ركام الدولة المنهارة أو المنصهرة، كأجزاء في “كنتونات صغيرة”، أو حتى بالذوبان كأجزاء في غيرها من الدول.
وهذا ما نخشاه بوضوح: من إريتريا في الشرق، ومن مصر في الشمال.