الجميل الفاضل يكتب: عين على الحقيقة “ثلاثين يونيو”، حين كان الشعر يمشي في المواكب؟!
“ثلاثين يونيو” ليس يوما عابرا في حياتنا، بل هو يوم أبيض في تاريخنا، غسلنا سواده بدمائنا، جلونا ما ران علي قلبه، حتي صار قلبا أبيض من الحليب، فقد هجر سواده “الترابي” وبيض نيته لنا أكثر من مرة ومرتين.
هو يوم، نصرنا علي عدونا وعلي انفسنا، يوم أن خذلنا مضيفنا -الجيش- علي بوابات قيادته.
علي أية حال، في هذا اليوم العظيم.. مجازا أقول انتصرت، مجازا أقول خسرت، أو كما قال الشاعر محمود درويش: “ويحملني طائران الي الجهة الخالية من الأوج والهاوية، لئلا أقول أنتصرت، لئلا أقول خسرت الرهان”.
إذ لم نعد في الحقيقة قادرين علي اليأس أكثر مما يئسنا.
ففي هذه الثورة كان الشعر يمشي في المواكب، مع الثوار في الشوارع، حافيا علي قدمين عاريتين.
وقد كان “ثلاثين يونيو” حاضرا، كأصدق ترجمان لحقيقة أن الشوارع لا تخون.
أتي هذا اليوم كالحلم بعد كابوس “مجزرة القيادة” في الثالث من يونيو، أي بعد سبع وعشرين يوما فقط منها، هي أيام انطوي الناس فيها علي آلامهم فوق الجراح، فقد كان المخاض عسيرا جدا، وكان الملح علي الجرح ينزي.
كان هذا اليوم حصاد سحب ركامية تصاعدت من بخار دم هؤلاء الشهداء، قبل أن تهطل علي الشوارع أمطار غضب.
المهم بعد سبع وعشرين يوما كانت هذه المعجزة تتخلق، معجزة إختمار أكثر من روح في أكثر من جسد، معجزة إحلال أرواح من قضوا شهداء، في أجساد من بقوا احياء.
إذ كان “ثلاثين يونيو” بمثابة خطاب رد الثورة المزلزل، علي رسالة الجنرالات العنيفة التي اختبروا بها إرادة الشعب، قبل أن يقلب الثوار الطاولة علي رؤوسهم في ذلك اليوم.
فقد عبأ الشعب الخوف الذي كسره علي قارعة الطريق، في عبوات صغيرة، وأعاد تصديره الي الجنرالات القابعين وراء حصون القيادة وبداخل أبراجها العالية.
وإلي أن اختلج قلب كبير الجنرالات الذي كان ينقب عن آثار حلم قديم لأبيه، اضطره أن ينزل إلي أرض ميدان الاعتصام باحثا عن مفتاح يقوده الي هذا الكنز أو الحلم حتي لو تحت جلباب السياسي المعارض ابراهيم الشيخ.
بل كان “ثلاثين يونيو” ردا صاعقا علي جنرال آخر أرعن لخص المذبحة باستخفاف واختصار بقوله: “وقد حدث ما حدث”، وكأن شيئا لم يكن.
ففي “ثلاثين يونيو” ليس ثمة مدينة أو عاصمة تم إغلاقها سلميا، أرضا وجوا وبحرا، كما حدث للخرطوم باضلاعها الثلاث في يوم تلك المعجزة.
كان ذلك اليوم، هو يوم المتاريس بامتياز، متاريس وراء متاريس، أمامها متاريس.
فلا شارع لا طريق ولا مكان، كل المساحات الخالية وشبه الخالية كانت مغلقة تماما بأمر الشعب.
فقد أكد هذا اليوم حقا أن هذا الشعب أقوي، وأن الردة مستحيلة.