الجميل الفاضل يكتب : عين علي الحرب السودان، بين جوارح الجبال ووحوش الأرض
عين علي الحرب
بحكم الوقت فإن لكل أول في السودان آخر، هو لا محالة قيد التشكل الآن، لا يحجبه عن البروز والتحقق في عين مكان الحرب والدماء والاشلاء، سوي الوقت لا أكثر ولا أقل.
ھكذا تظل الودائع مطوية في الخلائق، الي حين مجيء أوقاتها.
وبطبيعة الحال فإن مثل هذه الودائع المكنونة، يُخبئها القدر طي الكتمان، يصرف عنها الأذهان، الي حين مجيء مثل ھذا الوقت الذي ربما بدأت تلوح في الأفق بوادره.
فهذا الضرب من الصرف والإنصراف حدث، رغم أن رسالات السماء كلها وكتبها، لم تخلو من إشارة الي معني وقيمة واثر للسودان، الذي تمت الإشارة اليه بطريقة أو بأخري، في الأسفار التوراتية، وفي بعض الإناجيل، بل وفي السنة النبوية، عطفا علي أيات قرآنية، أو دونها.
أنظر كيف أن السودان ومترادفات تشير اليه قد وردت في العهد القديم “التوارة”، بأكثر من خمس وعشرين موضع.
ومنھا بدا لافتا جدا أن التوارة تثمن عاليا جدا روحانية شعب كوش، الذي تشيد ببسالته في الحروب، وتصفه بالمهابة من بين كل الشعوب، مقرظة طول قاماتهم، وجمال بشرتهم الناعمة (الداكنة).
حيث ورد بسفر “اشيعاء”، الاصحاح الثامن عشر: “يا أرض حفيف الأجنحة التي عبر أنهار كوش، المرسلة رسلا في البحر وفي قوارب من البردي على وجه المياه.
اذهبوا أيها الرسل السريعون إلى أمة طويلة وجرداء، إلى شعب مخوف منذ كان فصاعدا، أمة قوة وشدة ودوس، قد خرقت الأنهار أرضها، يا جميع سكان المسكونة وقاطني الأرض، عندما ترتفع الراية على الجبال تنظرون، وعندما يضرب بالبوق تسمعون، لأنه هكذا قال لي الرب: إني أهدأ وأنظر في مسكني كالحر الصافي على البقل، كغيم الندى في حر الحصاد، فإنه قبل الحصاد، عند تمام الزهر، وعندما يصير الزهر حصرما نضيجا، يقطع القضبان بالمناجل، وينزع الأفنان ويطرحها، تترك معا لجوارح الجبال ولوحوش الأرض، فتصيف عليها الجوارح، وتشتي عليها”.
وتسجل التوارة أيضا بعض الاحداث التي تمجد تاريخ ملوك “كوش” الذين حكموا مصر وحاربوا الاشوريين في مصر وفلسطين.
ومنهم بالطبع تهراقا العظيم الذي وردت الاشارة إليه بالاسم مرتين في التوارة.
مرة في سفر “الملوك الثاني”، ومرة بسفر “اشيعاء”.
تصور عندما كان الآشوريون “حكام مملكة بابل”، على ابواب “أورشليم” دعا النبي “اشيعاء” الرب ان يحفظ شبعه منهم، وان يعينهم بملوك كوش، ليصدوا عن العبرانيين شر الآشوريين، الذين شكلوا خطرا ماحقا آنذاك على دول المنطقة.
ويؤيد التاريخ اشارة التوارة إلى الملك تهراقا، ويخبرنا ان ملوك كوش قد اخضعوا مصر وحكموها، قبل ان يمتد نفوذهم الى فلسطين وسوريا، بعد أن حاربوا الاشوريين في مصر والقدس.
ومن أشهر اولئك الملوك السودانيين، كان بعانخي وتهراقا بالطبع.
هذا في التاريخ البعيد، لكن في التاريخ الأبعد تقول الروايات: إن ابناء “شيث بن ادم” واحفاده، لما جابهتهم جبال اثيوبيا المرتفعة، ساروا شمالا بجوار الساحل الغربي للبحر الاحمر، حتي وصلوا الي وادي النيل الخصيب وعمروه، فظهر فيهم “ادريس” عليه السلام، ادريس الذي نعته كتاب تاريخ الحكماء “بهرمس الهرامسة”، وقد توصل الكتاب الي ان جميع العلوم التي ظهرت قبل طوفان نوح، إنما صدرت عن هرمس الأول الساكن بصعيد مصر الأعلي، وهو الرجل الذي يسميه العبرانيون، “أخنوخ النبي” بن يارد بن مهللئيل بن قينان بن أنوش بن شيث بن ادم، الذي هو نفسه “ادريس” النبي، الذي يرسم له الكتاب صورة بالكلمات، تظھر ملامحا لرجل سوداني السمت والصفات، إذ تقول الصورة: كان “ادريس” رجلا آدم، تام القامة، حسن الوجه، كث اللحية، مليح الشمائل، عريض المنكبين، ضخم العظام، قليل اللحم، متأنيا في كلامه، كثير الصمت، إذا مشي أكثر نظره الي الأرض، كثير الفكرة، وإذا اغتاظ احتد.
بل أن نبوءات وإشارات أخري ربما قربت ھذه الحرب صورتھا الي الأذھان، أبرزها وفي مقدمتها إشارة نبي الإسلام، سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، التي ھي اشارة موحية بحتمية الإستعانة بالسودان لإستكمال ثلة الاسلام، ففي سورة الواقعة مَعلم أول رواه الإمام أحمد، عن أبي هريرة، ورواه الحافظ ابن عساكر عن جابر بن عبد الله، عن النبي (ص) لما نزلت الآية: “فيومئذ وقعت الواقعة”، ذكر فيها “ثلة من الأولين، وقليل من الآخرين”، قال سيدنا عمر: يا رسول الله، ثلة من الأولين، وقليل منا؟ قال: فأمسك آخر السورة سنة، ثم نزل: “ثلة من الأولين وثلة من الآخرين”، فقال الرسول: ” يا عمر، تعال فاسمع ما قد أنزل الله: “ثلة من الأولين وثلة من الآخرين”، ألا وإن من آدم إلي ثلة، وأمتي ثلة، ولن نستكمل ثلتنا حتى نستعين بالسودان من رعاة الإبل، ممن شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له”.
ولعل من أغرب نبوءات آخر الزمان ذات الصلة بالسودان، ما اورده “القرطبي” في مؤلفه “التذكرة”: “من ان المهدي إذا خرج بالمغرب، جاءت إليه أهل الأندلس فيقولون: يا ولي الله: انصر جزيرة الأندلس فقد تلفت، وتلف أهلها، وتغلب عليها أهل الكفر والشرك من أبناء الروم، فيبعث كتبه إلى جميع قبائل المغرب، وهم قزولة، وخذالة، وقذالة، وغيرهم من القبائل من أهل المغرب، أن انصروا دين الله، و شريعة محمد صلى الله عليه و سلم، فيأتون إليه من كل مكان، ويجيبونه ويقفون عند أمره، ويكون على مقدمته “صاحب الخرطوم”، وهو صاحب الناقة الغراء، وهو صاحب المهدي، و ناصر دين الإسلام، وولى الله حقا، فعند ذلك يبايعه ثمانون ألف مقاتل بين فارس وراجل”.
تري هل “الخرطوم” ذات الصاحب المنتظر، هي الخرطوم الماثلة، التي شرح كتاب “ذكر السودان في الصحف الاولي”، ان أول كهنة بنوا معبدا لهم عندها بمقرن البحرين، هم من أطلقوا عليها اسم “كا.. رع.. آتوم”، ويشرح الكتاب ان “كا” تعني “الروح”، و”رع” تعني “الشمس الالهية”، و” آتوم” هو الإله الخالف.
لتصبح ترجمة اسم “الخرطوم” وفق المصدر، “روح شمس الخالق الإلهية”.
ويضيف المصدر ان اللفظ تدحرج علي افواه الناس الذين عملوا فيه قضما وتحويرا عبر الأزمنة، فصار “كارتوما” و”كرتوما” الي ان وصل الينا في صيغته الجارية علي السنتنا “الخرطوم”.
تُري ھل بات “صاحب الخرطوم” ھو رجل الوقت الآن، و”صاحب ھذا الزمن” في المدي الغيبي.
إذ تقول مزامير داؤد: “ستأتيك يا الله أشراف مصر، وتسرع كوش بهداياها إليك، انشدوا لله يا ممالك الأرض، رتلوا للرب كل الترتيل”.
وفي سفر “صفنيا” يرد القول أيضا: “لانى حينئذ احول الشعوب الى شِفةٍ نَقيةٍ، ليدعوا كلهم باسم الرب، ليعبدوه بكتف واحدة، من عبر انهار كوش المتضرعون الئ، متبددئ يقدمون تقدمتي”.
وفى سفر “الرؤيا” حكي “اشعياء” النبى، قائلا: “فترى عيونكم “أورشليم”، تراها مسكناً مطمئناً، خيمة لا تنقل من مكانها، واوتادها لا تقلع الى الابد، وحبل من حبالها لا ينقطع، حيث الرب يظهر عظمته، وحيث الأنهار والضفاف الواسعة”.
المھم قبل ھذا الحصاد المرھون، بتمام الزھر، وعندما يصير الزھر حصرما نضيجا، كما وصف سفر “اشعياء”، ستقطع القضبان بالمناجل، وستنزع الأفنان، أي -تقتلع- ثم تطرح، قبل أن تترك، لتصيف وتشتي عليھا، جوارح الجبال ووحوش الأرض؟؟.
ليعطي “السِفر” من بعد لقاطني الأرضِ طُرا علامة أخري تشير لھذا الحدث المھم تقول: “عندما ترتفع الراية علي الجبال تنظرون، وعندما يُضربُ بالبوق تسمعون”.
كلھا مقدمات بما فيھا ھذه الحرب، حرب “الثورة المضادة”، التي جاءت كرد فعل مباشر لثورة ديسمبر المجيدة، والتي أتصور أن نھايتھا -أي الحرب- ستقود أيضا لثورة شاملة، وعميقة، علمية، وعملية، ھائلة جدا، ستنشأ مجددا من عين المكان الذي أصدر منه أو جمع فيه، أول نبي من أنبياء أھل السودان “ادريس” الذي أشار كتاب “تاريخ الحكماء” الي أن جميع العلوم التي ظھرت قبل طوفان نوح، انما صدرت عن “ادريس” نفسه الذي يسميه الكتاب “ھرمس الأول”، والذي يسميه العبرانيون في ذات الوقت “أخنوخ النبي”.
ثورة اعتقد أنھا ستأتي كإمتداد طبيعي من إمتدادات ثورة “ديسمبر”، متعددة المسارب والدروب.
ھذه الثورة المباركة التي يكاد زيتھا يضيء وإن لم تمسسه نار، ھذه الثورة التي تقود بالفعل والي اللحظة من خلال ميكانزماتھا الداخلية، خُطام الاحداث في ھذه البلاد، بما في ذلك حدث حرب الثورة المضادة لھا.
بل والي أكثر من ذلك أري أن ھذه الثورة العميقة والمتجددة بشكل أو بآخر، من شأنھا أن ترتقي في طور ما من أطوارھا المتصاعدة بالسودان وأھله الي قوة عظمي لا يستھان بھا في ھذا العصر، تؤھلھم من ثَّمَ للاطلاع بدورھم المرتقب في إعانة أمة النبي محمد وفي استكمال ثلتھا المشار اليھا بسورة “الواقعة”.
وبالطبع لا أستبعد وفق كل ھذه المعطيات، أن يكون قائد ركب أھل السودان بعد أن تضع ھذه الحرب أوزارھا، ھو الولي الصالح نفسه الذي وصفه “القرطبي” في مؤلفه “التذكرة”، بصاحب الخرطوم، متي سقط عنه حجاب الوقت، ليصبح صاحب الزمان.
وسيأتي ذلك في وقت ينبغي أن تسرع فيه “كوش” أو السودان بھداياھا الي الرب، ولتنشد من كافة ممالك الأرض القائمة، بأن ترتل الي الله بكل التراتيل.
بما يمھد السبيل لتحويل كافة الشعوب الي “شٍفة نقيةٍ”، ليدعو كلھم بأسم الرب الواحد، وليعبدوا الله بكتفٍ واحد ھو أيضا، علي إختلاف معتقداتھم، ومذاھبھم، وأديانھم.
لكن السؤال من أي محراب ستدعوا شعوب الأرض قاطبة ربھا،
بِشفةٍ نَقيةٍ؟: يجيب النبي “صفنيا” الذي قضي بالسودان ما يقارب ثلاثة سنوات: ان المتضرعيين (الذاكرين)، والمتبديين، (أھل الفناء)، في السودان، ھم من سيقدمون تقدمة الله.
وھنا يصف اشعياء النبي في سفر “الرؤيا” ھذا المكان، مكان العبادة بكتف واحد، وشفة نقية، بأنه: “خيمة لا تنقل من مكانھا، وأوتادھا لا تقلع الي الأبد، وحَبلٌ من حبالھا لا ينقطع، حيث يظھر الرب عظمته في مكان سِمته البارزة، وجود الأنھار والضفاف الواسعة، وإن وعدنا سفر الرؤيا بأن تري عيوننا “أورشليم” مسكنا مطمئنا، لكنھا تظل أورشليم التي ھي حيث الأنھار والضفاف الواسعة.
إنھا تذكرة:
(إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ، قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا).