الجميل الفاضل يكتب: لحظة ميلاد سحرية
يسبح السودان الآن في خضم “تاريخ سائل” متلاطم الأمواج، تاريخ بلا ساحل، قابل لتحويل أو تعطيل مجراه القديم، أو لتغيير مادته برمتها شكلا ولونا.
فالتاريخ عموما، شأنه شأن المادة يتشكل في أطواره المختلفة، بحال من أحوال المادة الثلاث: “السيولة، أو الغازية، أو الصلابة”.
وقد قال “هايدن وايت” أحد أهم المؤرخين في القرن الماضي: “إن التاريخ ليس مادة لفهم الماضي، بل للتحرر منه”.
إذ يبدو أن يوم بعد غد الإثنين، الذي سيتم فيه التوقيع لأول مرة علي وثيقة ميلاد لحكومة من خارج رحم الدولة الموروثة منذ خروج الإستعمار، وثيقة ربما تصبح هي مدخلا للتحرر من سطوة مركز
مسيطر ظل يتحكم لنحو سبعة عقود في كافة أشكال ومحاولات التغيير، التي كان يتطلع لها شعب السودان، من خلال نجاحه في الالتفاف علي أهداف ثلاثة ثورات شعبية، أفلح في إجهاضها وقطع الطريق أمامها.
فإن يك صدر هذا اليوم ولي، فإن غدا لناظره قريب، قريب هو من لحظة سحرية من لحظات التاريخ، شبه بها المفكر العربي الدكتور عزمي بشارة السقوط المفاجيء لنظام بشار الأسد، بلحظة سقوط أحجار الدومينو.
قائلا: كأنها “لحظة سحرية”.
المهم فالدومينو، هي مجموعة أحجار ترتب بإنتظام في وضع الوقوف أو الإرتكاز، على طرف إحداها.
وهو وضع يهيئ كل هذه القطع، للسقوط دفعة واحدة، لينهار من ثم ترتيبها الأول، ولينشأ لها شكلا آخرا جديدا ومختلف.
فقد إستعار الساسة الامريكان نظرية من هذه اللعبة، أسماها الرئيس الأمريكي ايزينهاور أثناء الحرب الباردة “نظريه الدومينو”.
التي تقوم على أن سقوط أي جزء من أي نظام، لابد أن يمهد تلقائياً لتساقط باقي اجزائه.
علي أية حال مضي عزمي بشارة في معرض تحليله للحدث السوري، الي شرح ما أسماها “اللحظة السحرية” التي تنهار فيها الأنظمة، بقوله: هي لحظة لا يعطي فيها أحد، أوامرا للجنود بالتوقف والذهاب الي بيوتهم، مستطردا بالقول: هناك شيء ما يحدث في مثل هذه اللحظة، يقود الي حدوث تغير نوعي حقيقي.
مشيرا إلي أن هذا هو ماحدث في أوروبا الشرقية، وفي ألمانيا الشرقية، ودول مثل تشيكوسلوفاكيا، التي انهار فيها النظام دون إطلاق رصاصة واحدة.
ذكرتني إحالة الدكتور عزمي بشارة لظاهرة سقوط الأنظمة دون رصاصة، ودون مقدمات، الي ما أسماها “اللحظة السحرية”، بمصطلح غامض آخر، قال به الدكتور عطا البطحاني الأكاديمي السوداني المختص في علوم السياسة في ندوة قبل الحرب بالخرطوم، هو مصطلح ” المُتغَّير الخفي” الذي سعي من خلاله لتفسير الحالة السودانية، وما يرشح عنها من تمظهرات، يصعب إخضاعها أحيانا لمنطق العقل، ولمعايير السياسة.
ولعل أسطع مثال لهذا “المتغير الخفي” الذي إتكأ عليه البروفسور عطا البطحاني للهرب من مأزق إيجاد تفسير علمي لبعض الظاهرات، التي لا وجود لها سوي في السودان، وفي مجاله السياسي خاصة.
قد جسده حال سفير الولايات المتحدة، في منتصف ستينات القرن الماضي “ويليام. ام. رونتري” الذي راهن على قوة نظام عبود في برقية بعث بها قبل يومين فقط من إندلاع ثورة إكتوبر المجيدة، ثم عاد ببرقية أخرى أقر فيها بسقوط النظام الذي وصفه في غضون شهر واحد بأنه قوي ومستقر.. لترد عليه الخارجية الامريكية متسائلة في حيرة، أي البرقيتين صحيح؟.
ليجيب السفير خارجية بلاده، بجواب أعجب من سؤالها:(نعم كلا البرقيتين صحيح).
كلا البرقيتين صحيح.. لأن متغيرا خفيا، قد طرأ فكان له مفعول السحر علي سلوك شعب، أضحي بمقدوره أن يسبح خارج الطقس، وأن يكسر كافة قواعد المألوف والمعتاد.