الجميل الفاضل يكتب من نيالا يوميات “البحير”: البيت الأبيض، لليوم الأسود ربما؟!
في ظني أن ترامب الذي يجيد الي حد بعيد، فن الإدارة بالجنون، هو الشخص الوحيد القادر في عالم اليوم، علي إخماد النار بالنار، أو بدخانها علي الأقل.
فقد أشار مبعوثه لأفريقيا مسعد بولس الذي كان يتحدث لقناة “الحدث” الي حوار قريب حول السودان، مؤكدا أن الرباعية علي تواصل الآن مع طرفي القتال لإيجاد حل، مشيرا الي حوارات أخري ستجري مع المجتمع المدني، مبينا في هذا الصدد أن الرباعية قد وضعت خارطة طريق مفصلة، كاملة وشاملة.
وكشف بولس، إن الرئيس ترامب ناقش مع نظيره المصري السيسي قضية السودان خلال قمة شرم الشيخ، موضحًا أنهم تواصلوا مع عدد من الشركاء بخصوص الجانب الإنساني في السودان علي هامش هذه القمة.
فيما جدد في ذات التوقيت تقريبا مجلس الوزراء السعودي، دعوته الي ضرورة الوقف الفوري للحرب في السودان، وتجنيب البلاد وشعبها المزيد من المعاناة والدمار.
عموما يقف وراء كل هذه الجهود الحثيثة رجلٌ أعاد نفسه إلى البيت الأبيض، أو أعادته الي مكتبه البيضاوي المؤثر الأقدار، يحمل في جعبته حلمًا لا يهدأ، وشخصية بدأت تتمحور حول قضية واحدة هي وقف الحروب علي مستوي العالم.
في وقت ليس بالضرورة أن يكون هذا الرجل الذي بدل إسم وزارة دفاعه، الي وزارة للحرب، صادقا تماما وهو يتباهي أمام نواب الكنيست منتصف الاسبوع قائلا: “شخصيتي تتمحور حول وقف الحروب”.
المهم فإن دونالد ترامب، الذي عاد الي البيت الأبيض في يناير الماضي، حاملاً بريق بطل السلام بات يرنو إلى صنع صفقات تاريخية، لا تقتصر على المال فقط، بل تمتد إلى كبح نيران الصراعات، وحمل شعلة الوحدة في عالم يغلي بالغضب والعنف.
كما أنه ليس من قبيل الصدفة أن ترامب كان قد ألقي منذ أول يوم في ولايته الثانية، بثقل الولايات المتحدة خلف مهمة وقف هذه الحروب المستعرة، وبتصميم رجل لا يعرف التراجع، أعلن أن قوته ستوقف الحروب، وتعيد للعالم روحه الضائعة.
هذه الثقة لم تكن مجرد كلمات، بل ربما وراءها سر عميق، لا يستند فقط إلى قوة بلاده، عبر سلاح العقوبات ونيرانها، التي يستخدمهما لإجبار خصومه على السلام، كحال إيران التي وضعها أمام خيار السلام أو المواجهة.
ولذا اتصور أن ترامب رغم تقلب أمزجته وأطواره، هو بالضبط الرجل المناسب، في الزمن المناسب، للدور المناسب، رغم أنه يمثل في الواقع أفضل نموذج لاسوأ رجل علي الأرض، يمتن حتي علي أصدقائه في اسرائيل وأوكرانيا وحلفائه في أوروبا بما يمنحه من سلاح وما يبسطه من حماية، فهو رجل مفتون، بسردية امتلاكه لأقوي الجيوش، وأفضل أنواع الأسلحة.
فضلا عن أنه لا يخفي حسده لملوك وأمراء الخليج علي ما يملكونه من أموال ضخمه، كلما لاحت أمامه سانحة، أو وجد لذلك سبيلا.
أما الآن، في خضم تعقيدات السودان، حيث تتقاطع المصالح، وتتشابك الخطوط، تبدو مبادرة الرباعية واشنطن – القاهرة – الرياض – أبوظبي، محكومة بنظرة ذات هذا الرجل الذي يرى نفسه بطل السلام العالمي، رجل الصفقة الكبرى مع التاريخ.
لكن هل ينبغي أن ننظر الي شخصية ترامب، التي تجمع بين الحزم والغرور، بين صفات القوة وصفقات السلام، لتحويل المشهد السوداني الممزق إلى قصيدة سلامٍ تليق بأرضٍ تعشق الحياة رغم كل هذه الجراح؟، بمعزل عن المشيئات الكبري والأقدار.
للحقيقة فإن هذه الحرب ليس لها من دون الله كاشفة، حيث باتت تتأكد مع كل يوم يمر معادلة راسخة تقول: إن يمسسك الله بضر فلا كاشف له في النهاية إلا هو، وإن يردك بخير فلا راد لفضله مهما كانت العراقيل والعقبات، لتبقي صورة أن ما يفتح الله للناس من رحمة علي يد كائن من كان لا ممسك لها، وما يمسك لا مرسل له من بعده.
فكل شاردة أو واردة، صغرت أو كبرت في هذا الكون، هي لا محالة تصدر عن كتاب لا يحيط الناس بشيء من علمه، إلا بما شاء “علام الغيوب”، الذي عنده مفاتح الغيب لا يعلمها بالضرورة الا هو، ويعلم كذا مافي البر والبحر، وما تسقط من من ورقة الا يعلمها، ولاحبة في ظلمات الارض، ولا رطب ولا يابس الا في كتاب مبين.
هذا الكتاب المبين، هو كتاب جامع منذ الأزل أشار له تعالى في قوله: “مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ”.
كل ذلك كي لا نسقط في فخ الحزن والأسي، أو فخ الفرح والغرور، لأن الله لا يحب في النهاية كل مختال فخور.
فلتجنب هذان الفخان الخطيران يجب أن ندرك أن تحت كل ظاهر في هذه الحرب باطن، لا ينبغي أن يصرفنا ظاهرها هذا، عن جوهر باطنها الحقيقي.
فمن الطبيعي أن يكره الناس من هذه الحرب كسائر الحروب ويلاتها ومآسيها، رغم أنها قد تنطوي في أغوارها وبواطنها علي خير لا يري علي سطح أحداثها الجارية حاليا، فقد نحب نصرا جزئيا ظاهرا فيها لطرف علي طرف، لكن يبقي هذا النصر نفسه في باطنه البعيد مقدمة لشر مستطير لا يزال مستتر.