الجميل الفاضل يكتب من نيالا: يوميات “البحير” (12): درس الجنوب.. وغباء مجلس الأمن؟!
“إن الجنون هو أن تفعل الشيء نفسه مرة بعد أخرى وتتوقع نتائج مختلفة”، قالها آينشتاين، لكن يبدو أن مجلس الأمن الدولي لم يقرأها جيدًا.
قبل أيام، صدر عن المجلس بيانٌ يرفض ما سمّاه “الحكومة الموازية” في السودان، بيان زعمت الباحثة في مركز الأهرام، د. أماني الطويل، أنه يعكس وعي المجتمع الدولي بدرس جنوب السودان.
لكن الواقع، أو على الأقل تفاصيل المشهد السوداني المعقد، تُظهر أن ذات الأخطاء القديمة يعاد الآن إنتاجها، بجرأة أكبر، وعبر قوالب أكثر هشاشة.
كنا قد سمعنا ذات النغمة في بداية الألفينات، حين تحدث الراحل منصور خالد بشجاعة عن ضرورة أن يُهيّئ السودانيون أنفسهم، يومًا ما، لتقبل حكم رئيس من الجنوب، ولو كان مسيحيًا، حفاظًا على وحدة البلاد.
لم يكن خالد نبيًّا، لكنه قرأ الواقع جيدًا، وكتب بشجاعة عن الفصام العميق بين النخب النيلية وبقية أهل السودان، وعن السرديات الزائفة التي سوّقت لمشروع مركزٍ واحد، وهوية واحدة، وجيشٍ واحد.
واليوم، يبدو أن المجتمع الدولي يعود للمربع ذاته، بتكريس حكم من طرف واحد، متجاهلًا أن السودان قد انشقّ بالفعل، وإن لم يُعلَن ذلك رسميًا.
كرة القدم، كما نعلم، لا تُلعب بالأقدام وحدها؛ فالأرض والجمهور أيضًا لاعبان حاسمان.
علي أية حال، فالمشكلة لم تكن فقط في إنفصال جغرافي محتمل، بل في الفشل المزمن في إدراك أن السودان لا يمكن أن يُدار من مركز واحد، ولا أن يُبنى على إنكار تعدده وتنوعه، أو على الإستهانة بثورات الهوامش التي ظلت تتجدد.
المهم إذا أراد العالم حقًا أن يمنع انقسام السودان إلى دويلات، فعليه أولًا أن يُعيد التفكير في فلسفة “الاعتراف الدولي” نفسها، وألا يجعلها حكرًا على من يملك طائرة وسفارة وعلمًا مغروسا علي سارية الأمم المتحدة.
فإن ما يُبنى على التضليل، أو على الإنكار، أو على عناد الجنرالات، لن ينتج سلامًا، بل هدنة هشة فوق ركام دولة تتآكل من الداخل.
تحت هذا الركام بدا متماهيا في أحيان كثيرة حتي الحزب الشيوعي، الذي يمثل أقصي اليسار، مع مركز السلطة الإخواني في بورتسودان.
في وقت برزت فيه أيضًا اصطفافات إقليمية قائمة على المصالح الصرفة، تجاوزت حتى التناقضات الأيديولوجية.
ومن أبرز نماذجها بالطبع: الموقف المصري المؤيد لاستمرار نفوذ جماعة الإخوان في السودان، رغم أن القاهرة الرسمية، بقيادة عبد الفتاح السيسي، تناهضهم هنالك إلي يومنا هذا بشراسة في الداخل المصري.
وللحقيقة ففي كردفان ودارفور هنا، تطلعا عميقا لرؤية رئيس للسودان ينحدر من غرب البلاد عموما.
ليس مهما أن يكون هو محمد حمدان دقلو أو سواه.
يغذي هذه الرغبة شعور قديم بسيطرة النخب النيلية علي مركز القرار بالدولة منذ فجر الاستقلال.
إذ يعتقد الي حد بعيد أن هندسة قد رتبتها قوي الإستعمار القديم، المصري التركي، والمصري الإنجليزي، تكرس لواقع أن يظل الحكم حكرا ودولة بين نخب الشمال.
هذه النخب التي لم تستطع كفكفة ومحاصرة مثل هذه التطلعات حتي بحيل الترميز التضليلي التي تكاثف حضورها في مشهد السلطة خلال عهد حكم الإخوان المسلمين الذي عرف بنظام “الانقاذ”.
ولعل هذا ما يفسر ظاهرة وطبيعة الانقسامات ونوع الاصطفافات التي انتظمت السودان في مرحلة ما بعد حرب الخامس عشر من ابريل.
هذه الانقسامات التي طالت كافة التحالفات التي نشأت بعد ثورة ديسمبر، ولم تستثني حتي كل الأحزاب التقليدية منها والحديثة.
بل ربما أن جذور هذه الظاهرة هي ما قد أدي الي خلط مدهش للأوراق في المواقف اليوم، بين أحزاب اليسار ورموزه، واليمين الإخواني الذي أعاد تموضعه في السلطة بعد إنقلاب 25 أكتوبر.