د . حافظ إبراهيم عبدالنبي
لم يأتِ التحالف بين الجيش السوداني والحركة الإسلامية صدفةً أو بنت لحظة سياسية عابرة؛ بل وُلد في سياق تاريخي طويل، تداخلت فيه طموحات السلطة مع مشروع عقائدي عابر للحدود، وأحلام جنرالات يبحثون عن دور خارج إطار المؤسسة العسكرية التقليدية. كان السودان في نهايات القرن الماضي يعيش قلق الهوية وضعف الدولة وتفكك النخب، مما جعل الطريق ممهداً أمام الحركة الإسلامية لتقترب من الجيش خطوة بعد أخرى، إلى أن انقلبت عليه في ليلة واحدة، وأنشأت نظاماً سياسياً يعتمد على قوتين: السلاح والعقيدة.
منذ انقلاب 1989، لم يكن الهدف الأول للحركة الإسلامية السيطرة على الحكم فحسب، بل السيطرة على الجيش نفسه. فقد أدرك قادتها أن بقائهم مرهون بتحويل المؤسسة العسكرية من جهاز قومي إلى نظام ولاءات حزبية. كان هذا التحول يجري بهدوء وبحنكة؛ عمليات إحلال وإبدال، ترقيات محسوبة، إحالة ضباط كبار للصالح العام، وتعيين عناصر صغيرة العمر كثيرة الولاء. ومع مرور السنوات، تحول الجيش الي مؤسسة مُسيَّرة لا تُسيّر، وموجَّهة لا تُوجِّه، أداة طيّعة في يد تنظيم يرى أنه مالك الحقيقة والسلطة معاً.
خلال ثلاثين عاماً من حكم الإنقاذ، لم تكن الحركة الإسلامية ترى الجيش كجزء من الدولة، بل كدرعها الأول والأخير. ولهذا، أنشأت أجهزة أمنية موازية، وسمحت بقيام مليشيات عقائدية، وأدخلت مفردات دينية في الخطاب الحربي والعقيدة القتالية، حتى بدا أن الحرب نفسها تتحول إلى عبادة، وأن القتال في أطراف البلاد إنما هو جهادٌ في سبيل مشروع سياسي لا علاقة له بالدين. وبذلك تشوهت صورة الجيش، وفُتحت أبواب الصراعات القبلية والجهوية، وانهار ما تبقى من المهنية العسكرية التي كانت تميز المؤسسة قبل الانقلاب.
وحين جاءت ثورة ديسمبر 2019، بدت الساحة السياسية كأنها تنفجر بما تحتها. كان الشعب قد وصل إلى لحظة إدراك عميق بأن بقاء البلاد تحت هذا التحالف لن يؤدي إلا إلى مزيد من الانهيار. سقط رأس النظام، لكن الجسد ظل ثابتاً. لم تتفكك الحركة الإسلامية كما توقع البعض، ولم ينهار تحكمها في الجيش كما أملت الجماهير. بل حدث العكس؛ وجد الإسلاميون في الفوضى التي أعقبت سقوط البشير فرصة لإعادة التموضع، فاختبؤوا داخل المؤسسة العسكرية، ودفعوا الضباط الموالين لهم إلى الواجهة، حتى بدا للمراقبين أن الجيش الذي تسلم السلطة بعد الثورة ليس مجرد وريث للنظام القديم، بل امتداد مباشر له.
وفي غمرة الفرح الشعبي، كانت الحركة الإسلامية تخطط لمرحلة ما بعد البشير. استمرت حالة المساومة بين العسكر والمدنيين، لكن اليد العليا في كل المفاوضات كانت تُدار من غرف مغلقة يتحكم فيها ضباط إسلاميون نشأوا على الولاء للتنظيم. ومع الوقت، بدأت النوايا الحقيقية تظهر: تعطيل لجان التحقيق، صناعة الأزمات الاقتصادية، إحياء خلايا التمكين، إغراق الساحة السياسية بالفتن. وبشهر أكتوبر 2021، كان المشهد قد اكتمل بالانقلاب المشئوم ؛ عاد التحالف العسكري-الإسلامي إلى السلطة بانقلابٍ واضح، معلناً أن الثورة هُزمت، وأن الطريق نحو الدولة المدنية قد أُغلق بالقوة.
غير أن التاريخ لا يمضي على خط مستقيم. ففي 15 أبريل 2023، اندلعت الحرب التي قلبت كل شيء، وكشفت ما كان مخفياً لثلاثة عقود. ظهرت الحركة الإسلامية علناً في الخطاب العسكري، في الإعلام، في غرف العمليات، في بيانات التحريض، وفي حملات التعبئة. لم تعد هناك حاجة للستار؛ فقد شعر الإسلاميون بأن وجودهم نفسه مهدد، وأن الحرب ليست مجرد معركة عسكرية، بل معركة حياة أو موت لمشروعهم السياسي الذي ينهار. ومع اليوم الأول للحرب، تلاشت المسافة بين الجيش والتنظيم، وظهر التحالف بصورته العارية: خطاب ديني متطرف، إحياء لمفردات الجهاد، استدعاء الماضي، نشر الكراهية، وشيطنة الخصوم السياسيين باعتبارهم أعداء الدين.
ومع توسّع الحرب، بدأ السودانيون يدركون حجم الكارثة التي صنعها هذا التحالف على مدى عقود. الدولة تحولت إلى أنقاض، المؤسسات اختفت، الاقتصاد انهار بالكامل، والخريطة الاجتماعية تفتتت بفعل الحروب والتحريض. أما الجيش، فقد وجد نفسه في معركة لا يديرها وفق عقيدة وطنية أو رؤية عسكرية، بل وفق أجندة سياسية يحددها تيار عقائدي يختبئ خلف الجنرالات. أما الحركة الإسلامية، فقد استعادت حضورها من بوابة الحرب، محاولة إقناع المجتمع الدولي والإقليمي بأنّ الجيش هو الخيار الوحيد، وأنها جزء من “معركة الهوية”، بينما في الحقيقة لا تريد سوى استعادة مشروعها القديم ولو على حساب بقاء السودان نفسه.
وما بين الحرب والخراب والتهجير، يبرز سؤال جوهري: كيف أصبح الجيش الذي يجب ان يكون رمزاً للسيادة وحماية الحدود أداة في مشروع حزبي؟ وكيف تحوّلت الحركة الإسلامية التي رفعت شعارات الأخلاق والعدل إلى تنظيم ارهابي يعتاش على الفوضى والدماء؟ الإجابة لا تتعلق بالصدف، بل بطبيعة التحالف نفسه؛ فكل تحالف يقوم على السلاح والعقيدة السياسية ينتهي دائماً بتدمير الدولة، لأن الدولة المدنية لا يمكن أن تُبنى على مؤسسة عسكرية مسيّسة، ولا على تنظيم يرى نفسه فوق الوطن وفوق الناس.
اليوم، يقف السودان أمام لحظة فاصلة. فإما تفكيك هذا التحالف تفكيكاً عميقاً، يشمل تفكيك شبكات التمكين وإعادة بناء وتأسيس جيش على أسس وطنية مهنية، وإما استمرار دوامة الخراب. فالحرب لن تنتهي بوجود جيش يخضع لتنظيم سياسي، ولا بوجود حركة إسلامية تعتبر السلطة جزءاً من عقيدتها. والبلاد لن تستقر إن ظل السلاح فوق السياسة، وإن بقي الماضي يتحكم في المستقبل.
إن تفكيك هذا التحالف ليس دعوة للانتقام ولا إقصاءً لأحد، بل هو شرط لبناء دولة حديثة. فالدولة المدنية التي يحلم بها السودانيون لا يمكن أن تُبنى تحت ظل جيش يدار من خلف ستار عقائدي، ولا تحت نظام يخلط بين الدين والسياسة، ولا في مناخ تُستخدم فيه الحروب لتغيير موازين السلطة. السودان يستحق جيشاً وطنياً يحمي الحدود لا الأنظمة، ويستحق حركة سياسية لا تتدثر بالدين ولا تحرّض على الحرب، ويستحق دولة يحكمها القانون لا الولاء.
لقد آن الأوان لأن يكتب السودانيون فصلاً جديداً من تاريخهم، فصلاً لا مكان فيه لتحالف الظلام الذي جر البلاد إلى الهاوية، ولا لمشاريع السلطة التي لبست عباءة الدين حيناً، وعباءة الوطنية حيناً آخر. فالمستقبل الحقيقي يبدأ حين تُزال هذه الطبقات الثقيلة من الوهم، ويعود الجيش جيشاً، والدين ديناً، والوطن وطناً.

