الحزب الشيوعي السوداني، الليبرالية المدنية، والحرب بوصفها نتاجًا بنيويًا
عمر على محمد
أثار مقال عاطف عبد الله في صحيفة مداميك، المعنون “الحزب الشيوعي: عناد القيادة والحرب التي (جبت) ما قبلها”، نقاشًا واسعًا حول موقع الحزب الشيوعي وموقفه من القوى المدنية التي قادت المرحلة الانتقالية عبر تحالف قوى الحرية والتغيير. المقال وصف الحزب بالعناد والعزلة، واعتبر أن الحرب ألغت كل الخلافات السابقة وأن الأولوية الوحيدة هي وقفها. غير أن هذا الطرح، رغم نبرته العاطفية، يتجاهل جذور الأزمة السودانية، ويعيد إنتاج خطاب التسوية الذي لازم قوى قحت منذ ما قبل سقوط نظام البشير.
الحرب لم “تجب ما قبلها”، بل جاءت نتيجة مباشرة لشراكة مع اللجنة الأمنية، ولبرنامج حمدوك–البدوي النيوليبرالي، وللارتهان لشروط صندوق النقد والبنك الدوليين كما في ثمرات ورفع الدعم. هذه السياسات أفقرت الشعب، وأضعفت الإنتاج، وفتحت الباب أمام اقتصاد ريعي طفيلي يقوم على تصدير الذهب وإرسال الجنود كمرتزقة، فيما بقي جهاز الدولة بيد العسكر والفلول. الحرب لم تلغِ التناقضات، بل كشفتها بأقصى صورها الدموية.
منذ 2016، حين بدأ تحالف نداء السودان التفاوض مع البشير برعاية أمبيكي، ظهر ما سماه الحزب الشيوعي “الهبوط الناعم”: انتقال شكلي يقوم على تنازلات استراتيجية. ولم يكن غريبًا أن تعلن بعض القوى استعدادها للمشاركة في انتخابات 2020. لكن هذه التسويات لم تحمِ البلاد من الانحدار، إذ تحولت الحرب إلى صراع بين جناحين من الطفيلية الاقتصادية: جناح البنوك الإسلامية الذي استخدم الدولة لحماية النهب، وجناح الدعم السريع الذي لوّح بتقسيم السودان لضمان مصالحه.
بعد سقوط النظام، تجسدت الرؤية نفسها في الشراكة مع اللجنة الأمنية وبرنامج حمدوك–البدوي: رفع الدعم، الخصخصة، والتخلي عن الإنتاج. فازداد الفقر وازدادت التبعية، وظهرت بوضوح في لقاء البرهان مع قادة إسرائيل في عنتيبي ضمن “السياسة الإبراهيمية”، وفي اتصال حمدوك بترامب، وفي نفوذ السفراء الأجانب والمبعوث الأممي الذي بدا كـ”حاكم عام” جديد. هذه لم تكن أخطاء عرضية، بل أرضية التقت عندها قحت مع العسكر والفلول رغم اختلاف خطاباتهم.
يحاول مقال عاطف عبدالله مساواة نقد الحزب الشيوعي للحكومة بهجوم الفلول عليها، وهي مغالطة. فالحزب انتقد من موقع الدفاع عن حقوق الشعب في التعليم والصحة والعمل، بينما سعى الفلول لاستعادة السيطرة وحماية مصالحهم المتراكمة في عهد البشير. التشابه شكلي، أما الجوهر فمتناقض. أما التقارب الحقيقي فكان بين قحت والفلول في قبول النموذج النيوليبرالي، مع خلافهما فقط حول من يحتكر السلطة والثروة. لذلك لم يكن صمت الحكومة الانتقالية عن قمع الاحتجاجات غريبًا، فالتقاء مصالحها مع الفلول ضد الشارع كان أقوى من خلافاتهما.
التاريخ يقدم شواهد كثيرة: مسار أمبيكي، الاستعداد لانتخابات 2020، برنامج حمدوك–البدوي، ثم اتفاق جوبا الذي مكّن قيادات الحركات الانتهازية على حساب جماهير الهامش. بل إن الشراكة مع إسلاميين كحركة العدل والمساواة قبل الحرب وبعدها دليل آخر على الاستمرارية. وليس أوضح من مشهد التقاء الجنجويد، بأيديولوجية التفوق العرقي، مع الجيش الشعبي الذي رفع شعار إنهاء الهيمنة العربية–الإسلامية. ورغم التناقض الظاهر، إلا أن الطرفين شرائح من الطفيلية الاقتصادية، وعدوهما المشترك هو النهوض الجماهيري وبرنامجه البديل.
كما يكرر المقال خطاب “حافة الهاوية”. بالأمس قيل للشعب: حماية الانتقال مقدمة على كل شيء، حتى لو دفع ثمنها جوعًا وتشريدًا. واليوم يقال: التحالف مع القوى المدنية هو الطريق الوحيد لوقف الحرب، وإلا فالفلول سيعودون. هذا منطق يبتز الجماهير بخيارين زائفين ويمنع التفكير في بديل ثوري حقيقي، بينما المطلوب تحالف مدني–ثوري مستقل يعيد الاعتبار لدور الشعب.
والأخطر أن المقال تحدث عن الحرب والجوع دون أن يذكر قوات الدعم السريع والجنجويد كفاعل رئيسي. هذا التجاهل يجعل المأساة تبدو ككارثة طبيعية بلا جناة، ويضع الضحية والجلاد في كفة واحدة. كما تجاهل تاريخ القوى “المدنية” في رعاية العنف بالوكالة: من مليشيا المراحيل التي استعان بها الصادق المهدي، إلى تسليم عبدالله خليل السلطة للعسكر، إلى دعم الترابي لحركة بولاد، إلى صمت حكومة حمدوك عن قمع احتجاجات الخرطوم. في هذا السياق، يصبح وصفها بـ”المدنية” غطاءً بلاغيًا يخدم إعادة إنتاج الأزمة.
إلى جانب ذلك، اعتمد مقال عاطف عبدالله على مغالطات واضحة: مساواة التشابه بالجوهر (نقد الحزب = نقد الفلول)، منطق حافة الهاوية (إما التحالف أو عودة الفلول)، والتعميم غير العلمي، كما في ادعائه أن 80% من عضوية الحزب رفضت القيادة أو جمدت نشاطها من دون أي دليل. هذا الرقم ليس سوى خطاب انطباعي هدفه رسم صورة الحزب كقوة معزولة، بينما النقاشات في الصحف والندوات ومنصات التواصل تكشف أن الحزب ما زال حيًا فاعلاً.
ورغم ذلك، لم يتنصل الحزب من أخطائه، بل اعتذر للشعب عن مشاركته في الفترة الانتقالية وتأخره في مغادرة قحت، ودعا القوى الأخرى لأن تحذو حذوه. وهو اليوم يطرح بديلاً مستقبليًا يقوم على تحالف جذري من القواعد الشعبية، حتى وإن بدا بعيدًا. فقد كان الحزب من أوائل من طرحوا منذ 2010 فكرة لجان المقاومة التي أثمرت في انتفاضة ديسمبر 2018، كما دعا باستمرار إلى المؤتمر الدستوري كبديل لاتفاق جوبا، وهو ما فصّل فيه في مبادرته السياسية الأخيرة.
الخلاصة أن الأزمة السودانية لم تنشأ من “عناد الحزب الشيوعي” كما يحاول المقال أن يصورها، بل من الليبرالية السياسية والاقتصادية التي تبنتها قوى مدنية واصلت تسوياتها مع العسكر والفلول منذ 2016، متجاهلة أوضاع الجماهير. من مسار أمبيكي والهبوط الناعم، إلى انتخابات 2020، مرورًا ببرنامج حمدوك–البدوي، وصولًا إلى اتفاق جوبا، يظل جوهر الأزمة في إعادة إنتاج التنازلات باسم “الواقعية”. وعليه، فإن ما يُسمى “عنادًا” هو في جوهره صلابة مبدئية في مواجهة مشروع التسوية، بينما “المرونة” التي يروَّج لها ليست إلا عودة إلى طريق أثبتت التجربة أنه يقود إلى الحرب، في حين أن البديل الحقيقي يكمن في تحالف شعبي واسع وبرنامج وطني جذري يعيد للشعب موقعه كصاحب المصلحة والقرار.