(الخرطوم) تدفع ثمن خطيئة النخب السياسية والعسكرية السودانية
مقال: محمد علي الكيلاني :مدير مركز (رصد الصراعات في الساحل الافريقي)، باريس
حين اندلعت الحرب الأخيرة في السودان، كانت الصدمة الكبرى في أن الخرطوم، عاصمة الدولة، تحولت فجأة إلى ساحة قتال شرس بين الجيش وقوات الدعم السريع، في مشهد غير مسبوق في التاريخ السياسي السوداني المعاصر، إذ لطالما ارتبطت الخرطوم، رغم هشاشتها، بصورة رمزية للسيادة والاستقرار النسبي، لكن هذا التصور انهار بالكامل عندما تحولت المدينة إلى ميدان للمواجهات المفتوحة، وسُحقت أمام أعين سكانها كل رموز الدولة، وتحول الفضاء المدني فيها إلى نقطة جذب للخراب، في إعلان ضمني بأن السودان دخل مرحلة غير مسبوقة من الانهيار البنيوي.
وقد جاء هذا التحول نتيجة مباشرة لانهيار هندسة السلطة التي كانت قائمة على توازن هشّ بين المكونات العسكرية المختلفة، حيث لم يعد بالإمكان تأجيل لحظة الحسم بين قوتين تتنازعان المركز وتُخفي كلٌ منهما شكوكاً متراكمة في نوايا الأخرى، ولأن الخرطوم كانت تحتضن مقرّات القيادة والسيادة، فقد بدت السيطرة عليها بمثابة المعركة الفاصلة التي ستحسم من هو صاحب اليد العليا، وبالتالي تحولت المدينة من عاصمة وطنية إلى هدف إستراتيجي لطرفين لم يعُد أي منهما يرى إمكانية الحل عبر السياسة.
وما زاد من خطورة هذه المعركة أن الخرطوم لم تكن مهيأة لا جغرافياً ولا مؤسسياً لتحمّل هذا النمط من الحرب، فهي مدينة مدنية في بنيتها، مكتظة بالسكان، متداخلة الأحياء، ضعيفة البنية التحتية في الأصل، ولم تكن تضم في قلبها جبهات عسكرية بالمعنى الكلاسيكي، ولذلك تحوّلت شوارعها وأسواقها ومستشفياتها إلى مسارح مفتوحة للمعارك، ولم يعد المدنيون مجرد شهود على العنف، بل صاروا وقوده المباشر، يهربون من منازلهم، أو يُستخدمون دروعاً بشرية، أو يُمنعون من الغذاء والدواء والماء، حتى باتت المدينة الكبرى رمزاً للخذلان لا للهيبة.
ومنذ الأيام الأولى للنزاع، ظهرت ملامح الانهيار الكامل للدولة في العاصمة، فالمؤسسات الحكومية توقفت عن العمل، والجهاز الإداري شُلّ بالكامل، والأمن تلاشى من الشوارع، والجريمة تمددت مستغلة الفراغ، والمرافق الصحية انهارت أمام تدفق الجرحى وغياب الأطباء، ولم تعد الخرطوم سوى مدينة تعيش على أنقاض نفسها، تملأها الذكريات المنهارة، وتثقلها رائحة الموت، وتنهشها المخاوف من المجهول، وكل ذلك أمام مرأى العالم، الذي لم يتجاوز موقفه حدود الدعوات الدبلوماسية الضعيفة لوقف إطلاق النار.
وقد كانت هذه الحرب في الخرطوم مختلفة عن كل الحروب السابقة في أطراف السودان، لا فقط من حيث الموقع، بل من حيث الرمز والدلالة، فقد مثّلت الخرطوم على مدى العقود مركز الثقل السياسي والاقتصادي والإعلامي، وعندما دخلت الحرب إلى قلبها، فقد دخلت في العمق الرمزي للدولة السودانية، وكأنها تسحب الشرعية من كافة النخب القديمة التي عاشت لعقود وهي تُصدّر الأزمات إلى طراف السودان، بينما تدّعي امتلاك السيادة في المركز، فجاءت هذه الحرب لتُعلن أن الاحتكار المركزي للسلطة لم يُنتج سوى هشاشة شاملة، بدأت تنهار من رأس الدولة لا من ذيلها وهرب القيادات السياسية والعسكرية الى شرق السودان.
ولأن العاصمة كانت منذ الاستقلال مُحتكرة من النخب التي استأثرت بالامتيازات (المال، السلطة، الثروة)، فقد بدت الحرب فيها بالنسبة لكثير من المهمشين كشكل من أشكال “عودة التاريخ إلى مساره”، فالخرطوم، التي كانت تُقرّر مصائر الأقاليم دون مشاورتها، أصبحت نفسها ساحة للعنف، وبهذا المعنى الرمزي الموجع، انعكس مركز القرار ليصبح مركز الألم، ولكن هذه المقاربة، رغم قوتها الرمزية، تخفي مأساة أكبر، إذ أن الخرطوم ليست فقط عاصمة للنخب، بل تحتضن ملايين من الفقراء والنازحين واللاجئين الذين هربوا من حروب النخب في الهامش، فإذا بالحرب تلحقهم في المكان الذي اعتقدوا أنه الملاذ الأخير.
ولذلك تحولت المعركة في الخرطوم إلى معركة استنزاف للخنب، ما جعل الحرب في الخرطوم من أكثر النزاعات عشوائية وترويعاً في تاريخ البلاد، وهي سابقة خطيرة قد تعيد صياغة شكل الحروب في السودان مستقبلاً من الأطراف إلى العمق.
وما يثير القلق أكثر أن الحرب في الخرطوم تُعيد إنتاج كل العيوب التي راكمها الحكم في السودان لعقود: تعدد مراكز القرار، وغياب قيادة سياسية موحدة، وانفلات السلاح، وتسييس المؤسسة العسكرية، وانهيار المؤسسات الخدمية، وميوعة الشرعية القانونية، فكل هذه العناصر تجمّعت في مساحة حضرية واحدة، لتصنع من الخرطوم نموذجاً مصغراً لسودان الدولة الفاشلة، أو “سودان ما بعد الدولة” إذا صح التعبير، وهي نتيجة مُرعبة لا ينبغي أن تمرّ وكأنها حادثة استثنائية، بل ينبغي أن تُقرأ بوصفها النتيجة المنطقية لمسار طويل من الإنكار والإقصاء.
ومما يُعقّد المسألة أكثر أن الخرطوم ليست فقط عاصمة سياسية، بل هي عقدة مواصلات، ومركز إعلامي، ومقرّ للبعثات الدبلوماسية، ومنطقة تتركز فيها معظم البنى التحتية الوطنية، وبالتالي فإن تدميرها لا يعني فقط إزاحة حكومة أو إخضاع طرف، بل يعني انهيار الدولة في وظيفتها الأساسية، وهو ما بات واقعاً يومياً يُعانيه الناس، وتُشاهده القنوات من دون أن يملك أحد القدرة على تغييره، فتغدو الخرطوم بذلك لا ساحة معركة فقط، بل ساحة اختبار لكل ما تبقى من احتمالات بقاء السودان كوحدة سياسية متماسكة.
وفي النهاية، فإن الخرطوم وقد أصبحت ساحة للصراع المسلح، لم تعد تمثل المركز الجغرافي أو السياسي كما كانت، بل باتت ترمز إلى نهاية مرحلة كاملة في تاريخ السودان الحديث، مرحلة بُنيت على مركزية السلطة، واحتكار القرار، وتهميش الأطراف، وانتهت بانفجار كل التناقضات دفعة واحدة في وجه من صاغوها، ولعل ما تبقى من دروس يمكن البناء عليه هو أن إعادة بناء السودان يجب أن تبدأ من الاعتراف بأن الخرطوم ليست السودان، وأن عاصمة تنهار هي في الحقيقة وطنٌ انهارت فيه العدالة، لا البنية فقط.