الخميس, يوليو 17, 2025
الرئيسيةاخبار سياسيةالسودان والسلام المفقود: منطق الغنيمة أم بناء الدولة؟ العدالة الغائبة في إتفاقيات...

السودان والسلام المفقود: منطق الغنيمة أم بناء الدولة؟ العدالة الغائبة في إتفاقيات السلام: ما الذي يجب تغييره؟(5)

السودان والسلام المفقود: منطق الغنيمة أم بناء الدولة؟ العدالة الغائبة في إتفاقيات السلام: ما الذي يجب تغييره؟(5)

تحليل:حسين سعد
لقد شكلت اتفاقيات السلام في السودان، على مدار العقود الماضية، محورًا أساسيًا في محاولات إنهاء الحروب الأهلية الممتدة وإرساء الاستقرار السياسي في دولة عانت من أزمات متلاحقة منذ استقلالها عام 1956، ومع أن التوقيع على هذه الاتفاقيات قد وُصف في حينه بأنه إنجازًا سياسيًا يعكس رغبة الأطراف المتنازعة في الوصول إلى تسوية سلمية، إلا أن القراءة المتأنية والعميقة لهذه الاتفاقيات تكشف عن إشكاليات بنيوية ومنهجية، أبرزها الاعتماد المفرط على نهج المحاصصة السياسية وتقسيم السلطة، كوسيلة لإنهاء النزاعات دون معالجة الجذور الهيكلية للصراع، إن منهجية السلام التي ترتكز علي المحاصصة، القائمة على توزيع المناصب بين قادة الحركات المسلحة والحكومة المركزية، قد أسهمت في تكريس مفهوم تقاسم الغنائم بدلًا من بناء الدولة على أسس المواطنة، والمؤسسات، والعدالة الاجتماعية، فقد أصبحت اتفاقيات السلام – في كثير من الأحيان – تسويات نُخب، تفتقر إلى تمثيل حقيقي للمجتمعات المتأثرة بالنزاعات، وتحولت إلى صفقات سياسية قصيرة الأجل تخدم مصالح أطراف محددة على حساب القضية الوطنية الجامعة.
الطريق المسدود إتفاقيات لم تحقق السلام:
تنبع خطورة هذه المنهجية من كونها تنشرعن العنف كوسيلة للوصول إلى السلطة، حيث باتت الحركات المسلحة – بحكم تجربة التاريخ السياسي السوداني – ترى في البندقية وسيلة فعالة للجلوس على طاولة التفاوض والحصول على نصيب من الحكم والثروة، كما أن هذه الاتفاقيات تجاهلت، إلى حد بعيد، قضية العدالة الانتقالية، والمحاسبة، وإصلاح أجهزة الدولة، مما جعلها غير قادرة على تفكيك البنى القديمة التي كانت سببًا في النزاع أصلاً، بالنظر إلى أبرز الإتفاقيات، من إتفاقية نيفاشا 2005 إلى إتفاق جوبا 2020، نجد أن معظمها قد بني على ذات الأسس: تقاسم السلطة بين المركز والهامش، منح المناصب لقادة الحركات، تحديد نسب التمثيل الإقليمي، دون معالجة الإشكاليات العميقة في طبيعة الدولة السودانية، وفي مركزية السلطة، والتمييز الاقتصادي والاجتماعي الذي خلق بيئة حاضنة لحمل السلاح.
سلام المحاصصات :
إتفاقية اديس أبابا في العام 1972م ، إرتكزت علي المحاصصة، وكذلك إتفاقية السلام الشامل (نيفاشا) بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان، نفذ المحاصصة في مؤسسات الحكم ، حيث نص الاتفاق على تقاسم السلطة والثروة بين الشمال والجنوب، وتخصيص نسب محددة من المناصب في الحكومة الاتحادية والولايات ومؤسسات الأمن والجيش، ورغم نجاح الإتفاق في إنهاء أطول حرب أهلية في أفريقيا آنذاك، إلا أنه لم يفضِ إلى بناء دولة موحّدة، بل عمّق الإنقسام، وحوّل الدولة إلى كيان هش قائم على توازنات مؤقتة بين طرفين رئيسيين، دون إشراك بقية مكونات الشعب السوداني. وانتهى الأمر بانفصال جنوب السودان في 2011، نتيجة فشل المحاصصة في خلق هوية وطنية جامعة، ثم جاءت إتفاقية القاهرة بين الحكومة والتجمع الوطني الديمقراطي التي مضت في ذات الطريق وكذلك أتفاقية أبوجا بين الحكومة وحركة تحرير السودان (مناوي) وإتفاقية اسمراء ين الحكومة وجبهة الشرق ، وإتفاقية الدوحة بين الحكومة وحركة التحرير والعدالة (التجاني السيسي) ، وعقب ثورة ديسمبر تشكلت محاصصة مدنية–عسكرية تحت ضغط الشارع بعد إسقاط نظام البشير، تشكلت حكومة انتقالية بالشراكة بين قوى إعلان الحرية والتغيير (المدنيين) والمجلس العسكري الانتقالي. ورغم شعارات الثورة، فإن التوزيع الفعلي للسلطة كان أقرب إلى (تعايش هش) بين الطرفين، حيث احتفظ العسكر بالسيطرة على ملفات الأمن والدفاع والاقتصاد، بينما مُنحت القوى المدنية مسؤولية الإدارة التنفيذية والسياسية، وكان واضحًا منذ البداية أن هذا الترتيب لم يقم على أساس الثقة أوالمشروع المشترك، بل على توازن الضعف والخوف من المواجهة، ومع إزدياد الخلافات بين المكونين، فشل المجلس السيادي ومجلس الوزراء في تنفيذ أجندة التحول الديمقراطي، وإنتهى المشهد بانقلاب 25 أكتوبر 2021م ثم جاء إتفاقية سلام جوبا بين الحكومة الإنتقالية والجبهة الثورية بشقيها التي أظهرت بدعة جديدة (سلام المسارات) وهو عبارة عن ترضيات مسلحة بدلًا من تسوية وطنية ، إعتمد سلام المسارات بشكل رئيسي على (توزيع السلطة والموارد) كوسيلة لتحقيق السلام، وقد مُنحت هذه الحركات نسبًا محددة من الوزارات، والوظائف العليا، والمجالس، إضافة إلى منحها حق تأسيس قوات عسكرية خاصة بها تُدمج لاحقًا في الجيش النظامي، لكن النتيجة كانت كارثية: فقد تعززت النزعة الجهوية، وإزدادت حدة التنافس بين الحركات، بل وإنقسم بعضها إلى فصائل متصارعة كما تعمّق الإنقسام داخل الحكومة الإنتقالية نفسها، وصارت الصراعات داخل مجلس الوزراء إمتدادًا لصراعات الأطراف الموقعة على الاتفاق. لم يتحقق السلام الشامل، بل توسّعت رقعة التوتر، خاصة في دارفور والنيل الأزرق.
من السلام إلى الغنيمة:
من خلال التجربة، يمكن إستخلاص عدد من الدروس المستفادة، أبرزها هي فشل نهج المحاصصة كأداة للسلام المستدام، فالاتفاقيات التي تنتهي بتقاسم السلطة دون إصلاح مؤسسات الدولة غالبًا ما تنهار أو تُفضي إلى حروب جديدة، وساهم عزل القوى المجتمعية عن العملية السلمية أدى إلى هشاشتها وفقدانها للشرعية المجتمعية، لذلك لابد من بناء السلام على العدالة لا على التسويات السياسية المؤقتة لان تجاهل مظالم الضحايا وغياب المساءلة يولد شعورًا بعدم الإنصاف ويغذي دورة العنف، فالدولة المدنية الديمقراطية هي السبيل الوحيد للخروج من نفق الحروب، لانه لا يمكن تحقيق سلام دائم دون إعادة صياغة علاقة الدولة بالمواطن، على أساس الحقوق والواجبات والمساواة، وليس على أساس الانتماءات العرقية أو الجهوية أو العسكرية، إن السلام الحقيقي في السودان لن يتحقق عبر صفقات سياسية فوقية، بل من خلال عملية شاملة جامعة تُبنى على التوافق الوطني، العدالة، إعادة توزيع الموارد بعدالة، وبناء مؤسسات قادرة على تجاوز الماضي نحو مستقبل يتسع للجميع. وعليه، فإن تجاوز أخطاء الماضي يتطلب بالضرورة إعادة النظر في طبيعة الاتفاقيات ومناهج التفاوض، والإبتعاد عن منطق الغنائم والإقتراب من منطق الدولة المدنية الحديثة(يتبع)

مقالات ذات صلة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

الأكثر شهرة

احدث التعليقات