الصدمة النفسية للحرب والتعافي
تقرير: حسين سعد
ظل المدنيون في دارفور يعانون طوال عشرين عامًا من فظائع الحرب التي اشتعلت شرارتها الأولى في عام 2003. قتلت تلك الحرب أعدادًا كبيرة من المدنيين، وفرضت حالة نزوح واسعة، حيث لجأ الآلاف إلى معسكرات داخلية ومخيمات في الخارج. ورغم توقيع العديد من اتفاقيات السلام مع الحركات المسلحة، ما زال السلام بعيد المنال في هذا الإقليم المنكوب.
وعندما اندلعت حرب 15 أبريل 2023 بين القوات المسلحة وقوات الدعم السريع، انضم المدنيون في دارفور إلى قائمة الضحايا الممتدة من الخرطوم إلى الجزيرة وسنجة. وتشير التقديرات إلى أن عدد قتلى الحرب بلغ أكثر من 150 ألف شخص، مع إصابة الآلاف، فيما يحتاج أكثر من 26 مليونًا إلى الغذاء والدواء، بينهم 14 مليونًا يعيشون أوضاعًا بالغة السوء. ولم تقتصر آثار الحرب على الجوانب المادية، بل امتدت لتشمل صدمات نفسية عميقة أصابت المدنيين من رجال ونساء وأطفال، ما فاقم معاناتهم.
معسكرات دارفور
خلال عملي الصحفي، زرت معسكرات دارفور عدة مرات وكتبت مئات الأخبار والتقارير عن أزمة هذا الإقليم المنكوب. في معسكرات مثل كلمة، زمزم، وأبوشوك، رأيت أطفالًا يلعبون، وآخرين يحملون أواني لجلب المياه أو الحطب للطهي. كانت وجوه بعضهم تملؤها تعابير الفرح، بينما لجأ آخرون إلى صمت عميق.
أجريت مقابلات مع رجال ونساء في تلك المعسكرات حول أوضاعهم المعيشية والصحية والتعليمية. بعضهم كان يتحدث بهدوء، والبعض الآخر بصوت عالٍ أو بصعوبة بالغة، مع إجابات مقتضبة تتطلب تأنّيًا. المعاناة في تلك المعسكرات لم تقتصر على الفقر والنزوح، بل شملت فقدان الأحبة، الإعاقة الجسدية، حرق القرى، وانعدام أبسط مقومات الحياة. ولكن الأثر الأكثر خفاءً كان في اضطرابات الصحة العقلية التي تراوحت بين القلق، الاكتئاب، اضطراب ما بعد الصدمة، وفقدان الأمل.
الحرب في الخرطوم والجزيرة
بصفتي شاهدًا على تداعيات الحرب، أمضيت 14 شهرًا في الخرطوم وولاية الجزيرة. كانت أصوات الرصاص والقصف لا تهدأ، مع الدانات التي تلقي حممها على المدنيين، والقناصة الذين يعتلون البنايات العالية. الشوارع ضجت بنقاط التفتيش والمعارك العنيفة. كل طرف من طرفي الحرب مارس القتل العشوائي، واعتقال الأبرياء، ونهب المنازل والممتلكات.
فرضت هذه الأوضاع فوضى شاملة، حيث انتشرت أعمال النهب في المصانع، الأسواق، والمحلات التجارية. سيطرت لغة السلاح والعنف على المشهد، مما أدى إلى تهجير قسري للسكان من العاصمة التي مزقتها الحرب. تفككت الأسر، وانقطعت العلاقات الاجتماعية، وسادت الفوضى مع انقطاع الكهرباء والماء والخدمات االأساسية.
في يونيو 2023، غادرت الخرطوم برفقة أسرتي إلى ولاية الجزيرة. استقبلتنا الجزيرة كما استقبلت آلاف الفارين من جحيم الحرب، وشاركنا سكانها طعامهم وشرابهم. ولكن مع دخول قوات الدعم السريع إلى الولاية في ديسمبر، عاد كابوس الحرب إلى مناطق مثل التكينة، الولي، الحوش، الشيخ تاي الله، وأزرق، مما أجبر المزيد من السكان على االنزوح.
نزوح مستمر وأزمات متفاقمة
النزوح في دارفور والجزيرة لم يكن حالة مؤقتة بل موجات متكررة، حيث تحولت القرى إلى براكين تُفرغ سكانها بالآلاف. الحرب أخرجت أكثر من 70% من المناطق الزراعية من دائرة الإنتاج، مما تسبب في فشل الموسم الزراعي لعامي 2023 و2024، متجاوزة معايير المجاعة المعتمدة دوليا.
في ظل انهيار النظام الصحي في 13 ولاية، تفاقمت معاناة المواطنين بسبب نقص الأدوية، المعدات الطبية، والخدمات الصحية، مما أدى إلى وفيات بسبب الأمراض المزمنة والأوبئة الفتاكة.
الصحة النفسية وتأثيراتها
أشارت منظمة الصحة العالمية إلى أن النزاع تسبب في تقليص عدد الأطباء النفسيين في السودان إلى الثلث، حيث لم يتبقَّ سوى 20 طبيبًا نفسيًا فقط، بمعدل طبيب لكل 2.5 مليون شخص. يعيش معظم السودانيين تحت ضغوط نفسية هائلة بسبب النزوح، اللجوء، العنف، وتعطّل سبل العيش.
التعافي من الصدمة
توضح د. مروة أحمد أن التعافي من الصدمة يتطلب تدخلات شاملة، تشمل الدعم النفسي والاجتماعي، جلسات تفريغ المشاعر، ورفع مهارات التأقلم الإيجابي. كما تؤكد أيضًا أن المحاكمات العادلة للجناة ضرورية لتخفيف مشاعر الانتقام، مع تعزيز الشعور بالأمان لللناجين.
خاتمة
بين القتل والنزوح، الفقر والصدمات النفسية، يعيش السودانيون أسوأ أزمة إنسانية في العالم. تحتاج هذه الأزمة إلى جهود ضخمة لمعالجة آثار الحرب وإعادة بناء حياة المدنيين، مع تقديم الدعم النفسي والاجتماعي اللازم لضمان قدرتهم على مواجهة المستقبل.