الأحد, ديسمبر 14, 2025
الرئيسيةمقالاتالعدالة الجنائية الدولية: الفرص والتحديات، محاكمة "كوشيب" نموذجًامقال (1 ــــ 2)

العدالة الجنائية الدولية: الفرص والتحديات، محاكمة “كوشيب” نموذجًامقال (1 ــــ 2)


بقلم آدم راشد – المحام
تُمثل العدالة الجنائية الدولية ركيزة أساسية في بناء نظام عالمي يسعى لإنهاء الإفلات من العقاب على أشد الجرائم خطورة التي تثير قلق المجتمع الدولي بأسره، مثل الإبادة الجماعية، والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب، ومع صدور الحكم النهائي القاضي بعقوبة المدان علي محمد عبد الرحمن (“علي كوشيب”) بالسجن لمدة 20 سنة، وهذا بدوره اتاح فضاء للتأمل والتباحث، حيث تتجدد الآمال والتساؤلات، تتجدد الآمال والتساؤلات حول فعالية آليات العدالة الجنائية بما فيها المحكمة الجنائية الدولية في عالم مضطرب تتضارب فيه المصالح وتتأكل قيم العدالة، ومن هذه النافذة نتطرق من خلال هذا العرض لتقييم الانجازات والفرص والتحديات في مسيرة هذه المحكمة منذ ميلادها في 1998م ودخول ميثاقهاحيز التنفيذ في اول يونيو 2002م

الفرص والإنجازات
إنشاء المحكمة الجنائية الدولية بموجب نظام روما الأساسي في عام 1998 وفر للعالم إطارًا قانونيًا ثابتا وآلية قضائية دائمًة لملاحقة مرتكبي هذه الجرائم، على عكس المحاكم الخاصة والمؤقتة، مثل المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة والمحكمة الجنائية الدولية لرواندا في اروشا والمحاكم الهجين: في كل من سيراليون و كمبوديا وكوسوفو وتيمور الشرقية ومحكمة لبنان الجنائية الخاصة بمحاكمة قتلة رئيس الوزراء اللبناني الاسبق رفيق الحريري، كمحاكم دولية مؤقتة ومنشأة بقرارات من مجلس الامن الدولي. فنشأة المحكمة كانت نقطة تحول جوهرية لارساء نظام دولي للعدالة الجنائية الدولية ثابت ودائم فقط اذا توفرت الارادة السياسية والتعاون الدولي الجاد من انجاز العدالة.
انجازات المحكمة :
ومن الثابت حتى الآن، فان نجاح المحكمة في قضية “كوشيب” بعد طول انتظار لهو دليل على ان فرص النجاح متاحة امامها، و يمثل هذا الحكم التاريخي أول إدانة لقائد متورط في فظائع دارفور، مما يوفر انصافا للضحايا الذين طال انتظارهم شعورًا بالعدالة والاعتراف بمعاناتهم، وفي ذات الوقت يبعث هذا القرار برسالة ردع قوية للمرتكبين الحاليين والمحتملين للجرائم، مفادها أن العدالة قد تطالهم في نهاية المطاف، مهما طال الزمن أو تغيرت الظروف السياسية، فالمحكمة تعيد التأكيد على حقيقة ان دورها “كملاذ أخير”، حيث تتدخل فقط عندما تكون النظم القضائية الوطنية غير قادرة أو غير راغبة في إجراء محاكمات حقيقية، مما يدفع الدول إلى تحمل مسؤولياتها الأولية في إنفاذ العدالة بالوفاء بالالتزمات والتعاون الجاد.
أصدرت المحكمة الجنائية الدولية عدد 13 حكمًا بالإدانة و4 أحكام بالبراءة من جملة 31 قضية تم النظر فيها أمام المحكمة بشكل عام ذلك قبل تاريخ صدور حكم “علي كوشيب” حسبما اورده مركز ويلسون.
فيما يتعلق بـ “علي كوشيب”، فإن الحكم الصادر بإدانته، يُعد تقريبًا الحكم بالإدانة الرابع عشر في تاريخ المحكمة (13 إدانة سابقة)، ونورد هنا أهم ما أصدرته المحكمة الجنائية الدولية حتى الآن من أحكام إدانة بحق الأفراد التالية أسماؤهم و: –
1- توماس لوبانغا ديلو أول شخص تتم إدانته من قبل المحكمة الجنائية الدولية، في: 14 مارس 2012م من الدولة: الكونغو وحكم عليه بالسجن 14 عاماً بتهمة تجنيد الأطفال دون سن الخامسة عشرة واستغلالهم للمشاركة فعلياً في الأعمال العدائية في حرب جمهورية الكونغو الديمقراطية.
2- جيرمان كاتانغا في: 7 مارس 2014 أدين بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجريمة ضد الإنسانية (القتل العمد) وحكم عليه بالسجن 12 عاماً، في قضية تتعلق بهجوم على قرية بوغورو في جمهورية الكونغو الديمقراطية.
3 – جان بيار بيمبا في تاريخ: 21 مارس 2016 (إدانة أُلغيت لاحقاً)الدولة: الكونغو / أفريقيا الوسطى التهم : جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية(القتل والاغتصاب) وألغي الحكم في بواسطة غرفة الاستئناف في 8 يونيو 2018 .
4- أحمد الفقي المهدي وأدين بتاريخ: 27 سبتمبر 2016 الدولة: مالي التهم: جريمة حرب – تدمير مواقع دينية وتاريخية (تراث ثقافي).
5- بوسكو نغانداندا قائد ميليشيا كونغولية، بتاريخ : 8 يوليو 2019 أدين بارتكاب 18 تهمة من جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، بما في ذلك القتل والاغتصاب والاستعباد الجنسي وتجنيد الأطفال، وحكم عليه بالسجن 30 عاماً.
6- دومينيك أونغوين قائد سابق في جيش الرب للمقاومة أدين في: 4 فبراير2021 من دولة يوغندا التهم: 61 تهمة من جرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية (هجمات على المدنيين، الاسترقاق الجنسي) وهذا من أكبر أحكام المحكمة من حيث عدد التهم.
7- الحسن عبد العزيز أدين في: 26 يونيو 2024 الدولة: مالي التهم: جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب (التعذيب، الاضطهاد، الزواج القسري)) ملاحظة: جزء من ملفات الجماعات المتطرفة في تمبكتو، علما مالي دولة طرفًا في نظام روما الأساسي، وقد استخدمت حقها في الإحالة المنصوص عليه في المادة 13(أ) من النظام الأساسي فقامت بإحالة الوضع في إقليم (أزواد ) شمال مالي إلى المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية في يونيو 2012 .
8- محمود سعيد عبد الكاني “علي أدين بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في جمهورية إفريقيا الوسطى وقد شملت القائمة كذلك مدانين آخرين في قضايا مختلفة، وتتغير الأرقام والأسماء بشكل دوري مع صدور أحكام جديدة أو استئناف الأحكام السابقة.
9- ألفريد ييكاتوم أُدين في 24 يوليو 2025 بارتكاب جرائم مختلفة حكم عليه بالسجن 15عاماً.
10- باتريس إدوار نغايسونا : أُدين في 24 يوليو 2025 بارتكاب جرائم مختلفة، حكم عليه بالسجن 12 عاماً، وألفريد ييكاتوم وباتريس إدوار نغايسونا يحملان جنسية جمهورية أفريقيا الوسطى، كانا قائدين لميليشيا “أنتي بالاكا”، وهي مجموعة مسيحية في الغالب متهمة بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في حق السكان المسلمين في جمهورية أفريقيا الوسطى خلال الحرب الأهلية التي اندلعت في الفترة 2013-2014.
11- علي محمد عبد الرحمن “علي كوشيب” أدين في: 6 أكتوبر 2025 الدولة: السودان (دارفور) التهم: 27 تهمة تتعلق بجرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية (قتل، اضطهاد، هجمات على القرى) وتعتبر أول إدانة في ملف دارفور المحال من مجلس الأمن الدولي بموجب القرار(1593/2005)في 2005م.
وهناك أخرين صدرت في حقهم احكام مازالت قيد المراجعة (الاستئناف) ويمكن تلخيص مجمل الاحكام
حتى تاريخ اليوم، 9 ديسمبر 2025، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية إجمالي 13 حكماً بالإدانة و 4 أحكام بالبراءة، و8 احكام نهائية منها (بعد الاستئناف) و7 احكام (استئناف) وتم إلغاء حكم واحد لاحقا، فيما بين (2016 – 2018) ولعل هذه ملاحظة جديرة بالانتباه: ان جميع هؤلاء الجناه المحكوم عليهم هم افارقة مما يعطي صورة قاتمة تعبرعن تمركز العنف والكراهية في هذه القارة الغارقة في نزاعات مسلحة دموية ومزمنة، وهذا يجب ان يكون دافع لتعزيز حماية حقوق الانسان ومناصرة مبدأ المساءلة وعدم الافلات من العقاب ودعم جهود المحكمة الجنائية الدولية لتطبيق العدالة الجنائية في العالم، وما احرزته من تقدم حتى الان في تلك المحاكمات يعتبر جيد في ظل التحديات الماثلة، وهي كثيرة ولكن اعظمها عدم تعاون الدول .
التحديات والمآزق العالمية
على الرغم من هذه الإنجازات، تواجه العدالة الجنائية الدولية تحديات جمة تعرقل تطبيقها الشامل والعادل حول العالم يظل عدم تعاون الدول، لا سيما في تنفيذ أوامر القبض وتسليم المتهمين، هو العائق الأكبر أمام المحكمة، وقد تجلى ذلك في حالة السودان لسنوات عديدة قبل تسليم “كوشيب” الطوعي الذي جاء نتيجة ربما لخوفه على حياته في السودان.
تواجه المحكمة اتهامات بالتركيز على حالات إفريقية وتسييس قراراتها، مما يضعف مصداقيتها ويخلق انقسامًا داخليا بين الدول الأعضاء، كما أن علاقات المحكمة المتوترة مع القوى العالمية الكبرى (مثل الولايات المتحدة وروسيا) تؤثر على فعاليتها
لا يمتلك نظام روما الأساسي آلية تنفيذ قسرية ضد الدول التي ترفض التعاون، مما يجعل قرارات المحكمة مرهونة بالإرادة السياسية للأطراف.
تتسم إجراءات المحكمة بالبطء الشديد والتكلفة العالية، مما يثير تساؤلات حول الكفاءة والجدوى الاقتصادية.
السودان كنموذج لمأزق تحقيق العدالة
تعد قضية دارفور مثالاً صارخًا على التحديات المزمنة للعدالة الدولية، فعلى مدى عقدين من الزمان، ظلت أوامر القبض بحق مسؤولين رفيعي المستوى، بما في ذلك الرئيس السابق عمر البشير، معلقة دون تنفيذ بسبب رفض السلطات السودانية التعاون. لقد كشف هذا المأزق عن التلاعب بالنظام القضائي الوطني لأغراض سياسية وغياب الإرادة السياسية لضمان المساءلة، ورغم أهمية إدانة “كوشيب”، فإنها لا تستطيع وحدها كسر دائرة العنف وسياسة الانكار والتواطؤ لطمس الحقيقة والإفلات من العقاب المستمرة حاليًا في السودان.
وفي بلدان أخرى، مثل يوغوسلافيا السابقة ورواندا، وتيمور الشرقية حققت تلك المحاكم الخاصة نجاحات في محاكمة الجرائم المرتبطة بالانتهاكات الجسيمة، إلا أن الطبيعة المؤقتة لهذه الآليات وحدود ولايتها الجغرافية كشفت الحاجة إلى محكمة دائمة ذات ولاية واختصاص عالمي.
التوصيات
لتعزيز فعالية العدالة الجنائية الدولية، نوصي بالآتي
يجب على المجتمع الدولي الضغط على الدول للامتثال التام لالتزاماتها بموجب نظام روما الأساسي أو قرارات مجلس الأمن (في الحالات المحالة)، بما في ذلك تنفيذ أوامر القبض دون تأخير. وينبغي تقديم الدعم الفني والمالي لبناء نظم قضائية وطنية قادرة ونزيهة يمكنها الاضطلاع بمسؤوليتها الأساسية في محاكمة الجرائم الدولية وفقًا لمبدأ التكاملية.
يجب الحفاظ على استقلالية المحكمة عن الضغوط السياسية وتجنب الانتقائية الجغرافية لضمان مصداقيتها وقبولها على نطاق أوسع .
يجب أن تتجاوز العدالة الجنائية مجرد المحاكمات لتشمل آليات العدالة الانتقالية الشاملة، مثل لجان تقصي الحقائق، وبرامج جبر الضرر للضحايا، وإصلاح المؤسسات لضمان عدم تكرار الفظائع
إن تحقيق العدالة الجنائية الدولية ليس مسارًا سهلاً، ولكنه ضرورة حتمية لضمان عالم أكثر عدلاً وإنسانية .
نأكد مرة آخرى إن الحكم الصادر في قضية “كوشيب” هو خطوة مهمة، وفي نفس الوقت تذكير صارخ بأن الطريق لا يزال طويلاً وشاقًا للوصول الى العدالة،خاصة في بلد مثل السودان له ارث ثقيل من الانتهاكات وانكار والتابوه ومحو الذاكرة مما نزع الثقة من العدالة الوطنية.
أصدرت المحكمة الجنائية الدولية ما مجموعه 13 حكمًا بالإدانة و4 أحكام بالبراءة حتى تاريخ صدور حكم “علي كوشيب” الذي يعد الحكم الادانة الرابع عشر في تاريخ المحكمة من ضمن حوالي 31 قضية تم النظر فيها أمام المحكمة الجنائية الدولية بشكل عام (بعضها أسفر عن تبرئة أو سحب التهم أو الوفاة قبل المحاكمة) والى هنا نصل الى نهاية هذا الملف الى ان نلتقي في قادم استودعكم الله.

مقالات ذات صلة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

الأكثر شهرة

احدث التعليقات