ايقاف الحرب في السودان في أروقة الجمعية العامة (الثمانين) للأمم المتحدة:ما الملطوب من الخارج ومن السودانيين لانجاح جهود الرباعية؟
بكري الجاك المدني
لا شك أن الاهتمام الذي حظيت به الحرب في السودان والكارثة الإنسانية التي أحدثتها في أروقة الدورة الثمانين للجمعية العامة للأمم المتحدة وفعالياتها الجانبية غير مسبوق طوال قرابة ثلاث سنوات من الحرب. وقد انعكس هذا الاهتمام في الفعاليات الجانبية المتعلقة بالسودان خلال الدورة الثمانين للجمعية العامة، والتي بلغ عددها ما لا يقل عن ثلاثة عشر فعالية. ركزت هذه الفعاليات بشكل أساسي على تجربة غرف الطوارئ وتمويلها ودورها في تطوير آليات محلية للعمل الإنساني، مع إبراز دور القيادات الشابة. وتُعتبر هذه التجربة بمثابة الشيء المشرق الوحيد في حربٍ أسفرت عن أسوأ كارثة إنسانية على وجه الأرض اليوم، دون استثناء.
جاء الاهتمام بغرف الطوارئ في إطار تسليط الضوء على الكارثة الإنسانية بشكل عام و من المنطقي أن تكون الكارثة الانسانية و ما يحدث للمدنيين في قمة اهتمامات العالم و للضرورة البراغماتية باعتبارها الأكثر إلحاحا لتسليط الضوء لحشد الجهد الدولي لتوفير الاموال، و لكن الاهتمام بهذا الشأن أيضا ربما يعكس مدى يأس الفاعلين الدوليين في التأثير بشكل فعّال في المسار السياسي لإيقاف الحرب و بالتالي التعامل مع فكرة غرف الطواريء بشيء من الرومانسية كوسيلة لتخليص الضمير من أي عقدة ذنب سياسي في عدم الإيفاء بالواجب الأخلاقي تجاه السودانيين، مع علم الجميع أن ما تقوم به غرف الطوارئ رغم أهميته و نبله لا يمكن أن يلبي كل الاحتياجات الإنسانية ل 30 مليون مواطن سوداني في سياقات متعددة و في حاجة ماسة لمساعدة إنسانية.
و الايجابي ايضا في فعاليات الجمعية العامة أنها سلطت الضوء على الجانب السياسي من الأزمة حيث أن العديد من الرؤساء العرب والأفارقة اشاروا الى ضرورة وقف الحرب فورا والبدء في عملية تفاوضية، وعلى سبيل المثال لا الحصر أمن كل من صاحب السمو أمير قطر الشيخ تميم وفخامة الرئيس روتو رئيس جمهورية كينيا في خطابه أمام الجمعية العامة على ضرورة إيقاف الحرب بالتفاوض. و لكن هناك حدثين أكثر أهمية حدثا خلال فعاليات الجمعية العامة للمنظمة الأممية. أولهما، أن دول الرباعية (الولايات المتحدة، المملكة العربية السعودية، الامارات العربية المتحدة و مصر) اجتمعت علي مستوي وزراء الخارجية و جدّدّت تأكيدها على مواصلة الجهود لتنفيذ خارطة الطريق التي أعلن عنها في 12 سبتمبر، أما ثانيهما فهو أن الرباعية وجدت دعما من خلال الاجتماع المشترك للاتحاد الأوروبي والاتحاد الافريقي و الايقاد و الجامعة العربية والمملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا بالإضافة إلى العديد من الدول الافريقية. و بشكل عام لم تجد قضية السودان مثل هذا الاهتمام ربما منذ اتفاقية السلام الشامل في 2005 و من ثم في الاحتفاء بثورة ديسمبر المجيدة في 2019، كما و لم تجد عملية إسكات البنادق إجماعا دوليا مثل الذي حدث في أروقة الجمعية العامة وما صاحبها من أنشطة، وإن كان من المؤسف أن يكون دوما اهتمام العالم بالسودان لإيقاف حرب ما إذ نتمنى أن يأتي اليوم الذي يكون فيه اهتمام العالم بالسودان لأن به علماء اكتشفوا لقاحا للسرطان أو طوروا تقنية لمقاومة ظاهرة التغير المناخي، ولكن الأشد أسفا هو أن السودانيين انفسهم ليسوا متفاعلين بما يكفي مع هذه التطورات لجعل هذا الاهتمام يتحول إلى حقيقة عملية تؤدي الى ايقاف الحرب وعودة الحياة المدنية و إغاثة الناس و تهيئة المناخ لحوار سوداني جامع بين السودانيين لجعل حرب 15 أبريل آخر حروبهم بوضع لبنات لعقد اجتماعي يؤسس لتعايش سلمي و يحتفي بالتنوع لتتمكن الأجيال القادمة من المساهمة الإيجابية في مسيرة البشرية باكتشافات علمية و صناعية.
ما أخشاه أن هذه ربما تكون الفرصة الأخيرة لإسكات البنادق، و التوافق الذي تم بين دول الرباعية، وهي دول مؤثرة في مشهد الحرب في السودان، ليس بالأمر اليسير و قد لا يحدث بسهولة إذا انهارت هذه الجهود. أما اذا انهارت هذه الجهود و عاد معسكري الحرب إلى تصوراتهم حول إمكانية النصر العسكري و ذهب كل منهم الى حلفائه في الداخل والخارج لحشد الدعم لمواصلة الحرب ففي ظني هذا سيكون خطر ماحق لا يمكن معرفة نهاية عواقبه، خصوصا في ظل حقيقة أن التصورات البسيطة عن أن هناك طرف سيظل متماسك و سيحارب و يحرر الأرض و يحقق الاستقرار ربما ستصبح محض حلم، و قد يأتي اليوم الذي تتحول فيه كل أرض السودان إلى ساحة حروب تسيطر عليها كانتونات عسكرية ذات ارتباطات اثنية داخلية و تحالفات خارجية لها علاقة بامتصاص الموارد و التموضع الجيوسياسي، كما قد يأتي يوم يكون فيه ما شهدنا من انتهاكات حتى الآن لا تعدو أن تكون سوى مجرد مناظر لسوء ما سيأتي. و في حقيقة الأمر ليس هنالك مصالح متطابقة في هذه التحالفات العسكرية في معسكري الحرب، مهما حاول البعض تصويرها و تجميلها بسرديات ذات الهام أخلاقي، و قد يأتي اليوم الذي يفقد فيه الجميع القدرة على السيطرة خصوصا أن الانقسام الاجتماعي والاستقطاب الأثني والجغرافي سيتضاعف و سيصبح هذا الانقسام هو المحرك الجديد لحروب متعددة و متداخلة. أما اذا انهارت هذه الجهود فلكم أن تتخيلوا كم من الوقت سنحتاج الي الوصول الي هذه النقطة مرة أخرى وبعد كم من الخسائر والدمار، إذن ما هو المطلوب من الداخل و الخارج حتى لا تفشل هذه الجهود؟
خارجيا، يجب أن يتم توظيف هذا الاهتمام الدولي لحشد الجهود لتوفير الأموال للعون الإنساني الذي يحتاجه السودانيون الآن و ما سيحتاجونه في مقبل الأيام. كما يجب أن يستمر التواصل الدبلوماسي بين دول الرباعية من أجل الوصول إلى تكوين لجنة اتصال دائمة تضطلع بوضع خطط عملية تنفيذية لخارطة الطريق التي جاءت بيان الرباعية الصادر في 12 سبتمبر من الشهر الجاري. كما من المهم أيضا توفير الدعم و التمويل للمجتمع المدني السوداني ليقوم بتطوير ونشر سردية للسلام تتجاوز خطابات الحرب و مبرراتها.
داخليا، يجب تصميم حملة إعلامية ضخمة لتسليط الضوء على آثار الحرب و على الناس وما خلفته من طرائق تفكير إذ لم أتحدث مع أي سودانية أو سوداني داخل أو خارج السودان لم يشكو بؤس حاله و شظف عيشه و ألمه و خوفه من عدم قدرته من تحمل المزيد إذا استمر هذا الحال طويلا. أما أوضاع السودانيين الذين عادوا و الذين ما زالوا في النزوح أو في اللجوء فأقل ما توصف به فهي كارثية بمعنى الكلمة، و شبح المجاعة أصبح واقعا معاشا و أمرا ماثلا و ليس مجرد تقديرات وتوقعات كما كان في السابق. وحتى هذه اللحظة لم التق بكائن حي بلحمه و دمه يقول أن في استمرار الحرب خير له، الأمر الذي جعلني موقن أن الكائنات الاسفيرية، التي تتحدث عن ضرورة استمرار الحرب إلى آخر جندي في الدعم السريع بالنسبة لمناصري القوات المسلحة أو آخر فلولي بالنسبة لمناصري تأسيس، هم في حقيقة الأمر ليسوا كائنات حية تعمل ليل نهار مثل غالبية السودانيين لمساعدة الأهل او الأقارب و تعاني من ثقل الدّين ومن قلة الحيلة، و ليس لهم أقارب يموتون جوعا و يشحتون في شوارع القاهرة وغيرها من عواصم دول الجوار و ربما يقومون بأفعال أخرى لا يمكن الاحتفاء بها لسد الرمق. هنالك ضرورة ملحة لتصميم مشاريع لفهم و عكس مشاعر الناس التي خلفتها الحرب والاعتراف بالمشروعية الأخلاقية لهذه المشاعر و موضوعيتها رغم أنها تجارب ذاتية.
وفي ذات السياق، يمكن للفرد منّا أن يتفهم أن الغضب والرغبة في الانتقام قد أعمت قلوب الكثيرين و جعلتهم يقولون أحيانا أقوال متناقضة على شاكلة “نحن مع السلام ولكن السلام مع من أو مع منو؟ و من ثم يعددون لك سجل انتهاكات الدعم السريع و بعضهم يمضي و يقول أن هذا غزو أجنبي و يجب أن يقاوم الي ما لا نهاية” و من حيث لا يشعرون تجدهم قد أقاموا الحجة لدعم استمرار الحرب إلى أجل غير مسمى و كأنما السلام ليس خيارا متاحا مثلما الحرب. و ببساطة السلام ضرورة بين الأعداء الحقيقيين و المتخّيلين، فمهما كانت مرارات الحرب و عمق شروخها وما خلفته في النفوس من ضغائن ففي وقفها خير وفير وفي تحقيق السلام سانحة حقيقية للانتصار للحق و لتحقيق العدالة، و لكن الأهم أن في تحقيق السلام فرصة لإنقاذ حياة الملايين الذين يمكن أن يكونوا في عداد الاموات اذا استمرت هذه الحرب للانتقام للموتى و لما فقدناه من ممتلكات و لما انتهك من عروض و لما كٌسر من قيم و بنيان. أما الاهداف السياسية للحرب سواء كانت الدفاع عن مؤسسات الدولة أو وانهاء ظاهرة تعدد الجيوش أو صد الغزو الأجنبي أو العودة إلى السلطة (تحالف المال والسلطة) من ناحية أو بناء دولة المواطنة و العدالة أو هزيمة الفلول أو السلطة من ناحية أخرى فكلها يمكن أن تتحقق بوسائل سلمية مثل الحل السياسي المتفاوض عليه بواسطة السودانيين أنفسهم أصحاب المصلحة العليا. و عليه، تصوير أن هذه الحرب بمثابة قدر إلهي أو أنها فرضت على أي من أطرافها فهو محض تدليس لا يعدو أن يكون سوي مثله مثل سرديات الحرب و التي حتى و لو سلمنا بصحتها جدلا فهي محض أدوات حرب ليس الا.
خلاصة القول أن هناك فرصة مؤاتية لتحقيق السلام في السودان وعلي الخارج أن لا يألوا جهدا لتوفير الدعم المالي والجهد الدبلوماسي لإنجاح خطة الرباعية. و على الداخل السوداني أن يعي أنه هذه ربما تكون الفرصة الوحيدة المتوفرة الآن لإيقاف الحرب وأن على كل مكونات المجتمع السوداني الانخراط للمساهمة في جهود إيقاف الحرب، فعلى المجتمع المدني أن يصطف للدفع بجهود السلام و بالعمل على تطوير سردية جاذبة للسلام تٌعلي من فرص التعايش السلمي بين السودانيين. و بالنسبة لأطراف الحرب (في معسكر بورتسودان و معسكر تأسيس) الرسالة واضحة و فحواها أن بإمكانهم الوصول إلى تسوية سياسية، بالضرورة لا تحقق لكل طرف كل تطلعاته لكنها يمكن أن، تؤسس الى نقطة بداية جديدة تنقل الصراع إلى مربع سياسي جديد وهذا ممكن ومتاح متى ما تخلينا نحن السودانيون عن قلة الحيلة و عن الاستسلام إلى ضيق الأفق و ضعف الخيال الذي يصور لنا دائما أن الموقف يجب أن يكون دائما صفريا من الأعداء الحقيقيين و المصنوعين و المتخّيلين، وفي حقيقة الأمر ليس هناك أعداء دائمين في هذه الحياة القصيرة الطويلة، وإذا ركزنا جميعنا على المصالح المشتركة وليس المواقف المسبقة بفعل الغضب و التصورات المصنوعة و المتخيلة سنجد أننا كلنا كسودانيين لنا مصلحة جامعة في ايقاف الحرب و في تحقيق السلام و في خلق شروط عادلة و عملية للتعايش المشترك بما في ذلك تجار الحروب (أصحاب التأثير الأكبر في الحرب) إذ يمكنهم كسب الكثير من المال في ظل حياة مدنية مستقرة و آمنة.
بكري الجاك
أستاذ السياسات في جامعة لونغ آيلاند – فرع بروكلين،
الناطق الرسمي باسم تحالف القوى المدنية والديمقراطية “صمود