بيان الرباعية: بين لغة الدبلوماسية ومحنة المدنيين في حرب السودان؟
كتب:حسين سعد
منذ أكثر من عامان ونصف مازال المدنيون السودانيون يدفعوا أثمان باهظة للحرب من أرواحهم وأمنهم وكرامتهم، ويوم الجمعة الموافق 12 سبتمبر 2025م صدر بيان الرباعية (الولايات المتحدة، بريطانيا، السعودية، الإمارات) ليؤكد على وقف القتال وفتح الباب أمام عملية سياسية جديدة، وأكد البيان وزراء خارجية الولايات المتحدة ومصر والسعودية والإمارات إن سيادة السودان ووحدته وسلامة أراضيه ضرورية لتحقيق السلام والاستقرار، وأقر البيان أنه لا يوجد حل عسكري يمكن تطبيقه لإنهاء النزاع، والوضع الراهن يخلق معاناة غير مقبولة ومخاطر على السلام والأمن، وطالب البيان جميع أطراف النزاع بتسهيل وصول المساعدات الإنسانية على نحو سريع وآمن ودون عوائق إلى جميع أنحاء السودان ومن خلال جميع الطرق الضرورية، وحماية المدنيين وفقا للقانون الإنساني الدولي والتزاماتهم بموجب إعلان جدة، والامتناع عن الهجمات الجوية والبرية العشوائية على البنية التحتية المدنية، وقال بيان الرباعية إن مستقبل حكم السودان متروك للشعب السوداني ليقرره من خلال عملية انتقالية شاملة وشفافة، لا تخضع لسيطرة أي طرف من الأطراف المتحاربة؟ (هذا تلخيص لما ورد في البيان )
لكن بالنسبة للمدنيين، فإن القيمة الحقيقية لأي بيان أو مبادرة لا تكمن في الكلمات الدبلوماسية وحدها، بل في القدرة على حماية المدنيين وضمان العدالة وعدم الإفلات من العقاب، السؤال المحوري: هل يمكن لهذا البيان أن يشكل بداية مسار يضع حقوق الإنسان في صلب العملية السياسية؟ أم أنه مجرد محاولة لتسكين أزمة سياسية دون معالجة جذرية للانتهاكات الجسيمة؟ لكن القراء العميقة في مضمون بيان الرباعية نري إنه لم يكن مجرد تعبير دبلوماسي تقليدي عن القلق، بل حمل في طياته إشارات سياسية متعددة يمكن قراءتها في سياق الصراع الجيوسياسي في المنطقة، ومواقف القوى الدولية والإقليمية المتشابكة مع الملف السوداني؟
البيان والبعد الأنساني؟
البيان إستخدم لغة مزدوجة تجمع بين الدعوة لوقف القتال والتشديد على المسؤولية الأخلاقية والسياسية للأطراف السودانية، وهذه الازدواجية تعكس أن الرباعية لم تعد ترى الحرب مجرد نزاع داخلي، بل باتت أزمة تهدد الأمن الإقليمي والدولي، سواء عبر تداعيات الهجرة واللجوء، أو إحتمال تمدد الجماعات المسلحة والإرهابية، أو التأثير على ممرات التجارة في البحر الأحمر، بيان الرباعية شدد على ضرورة وقف إطلاق النار وحماية المدنيين، وهي إشارات مهمة لكنها لا تكتمل دون آليات مراقبة ومساءلة. فالمجتمع السوداني خبروعرف بيانات عديدة لم تمنع القصف الجوي العشوائي للمدن المكتظة بالسكان، والأعيان المدنية ، وكذلك عمليات القتل على الهوية في الخرطوم ودارفور وكردفان، والإنتهاكات الجنسية كسلاح حرب، وحالات النزوح الجماعي لملايين السودانيين داخل وخارج البلاد مثلما ماحدث في دارفور منذ العام 2003م وحتي اليوم ومن قبل في جبال النوبة والنيل الازرق وشرق السودان ولدينا في الجزيرة التي فرت قري بإكملها ونزحت، إذن، فإن الفجوة بين الخطاب والواقع لا تزال واسعة، ما يجعل إختبار البيان مرهوناً بالفعل على الأرض لا بالنصوص.
رسائل في بريد الأطراف السودانية:
قال بيان الرباعية إن الدعم العسكري الخارجي لأطراف النزاع في السودان يُسهم في تأجيج النزاع وإطالته، ويُسهم في زعزعة الاستقرار الإقليمي. وعليه، يُعدّ وقف الدعم العسكري الخارجي أمرًا أساسيًا لإنهاء النزاع، وإلتزم الوزراء بالالتزامات التالية لمواصلة مشاركتهم في دعم الحل السلمي، وأكدوا بذل كل الجهود لدعم تسوية تفاوضية للنزاع بمشاركة فعالة من القوات المسلحة وقوات الدعم السريع و الضغط علي جميع اطراف النزاع لحماية المدنيين والبنية التحتية وضمان وصول المساعدات الانسانية الي المحتاجين وتهيئة الظروف التي تضمن أمن منطقة البحر الاحمر الاوسع ، و مواجهة التهديادات الامنية العابرة للحدود الوطنية من المنظمات الارهابية والمتطرفة والظروف التي تسمح لها بالانتشار ومنع الجهات الاقليمية والمحلية المزعزعة للاستقرار التي تسعي الي الاستفادة من إستمرار النزاع في السودان .
عزلة دولية ووقف الإنتهاكات:
القراء الحصيفة لبيان الرباعية في دعوة للقوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع للتعاطي بجدية مع مسار سياسي، مع التلميح بأن إستمرار تمسك كل طرف بالحل العسكري قد يؤدي إلى عزلة دولية ، فضلاً عن أشارت البيان الي وقف الإنتهاكات وحماية المدنيين، ما يعني أن الرباعية تنظر بعين الريبة للانتهاكات الفظيعة بحق المدنيين ، أما رسالة بيان الرباعية للقوي المدنية السياسية حيث لم يغفل البيان الإشارة إلى ضرورة شمول العملية السياسية لكل المكونات المدنية، وكأنه يبعث برسالة أن السلام لن يكون مستداماً إلا بوجود قاعدة سياسية مدنية واسعة وهنا نقراء التالي من البيان : أكد الوزراء عزمهم على مواصلة المناقشات والمشاورات والاجتماعات، على المستويين الوزاري وما دون الوزاري، لتعزيز جهودهم المنسقة دعمًا لإنهاء النزاع في السودان، بما في ذلك دعم إرساء وتنفيذ عملية انتقالية شاملة وشفافة. وتحقيقا لهذه الغاية، أعرب الوزراء عن دعمهم لجهود المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأميركية، من خلال عملية جدة، لتحقيق وقف دائم لإطلاق النار في السودان، وكذلك لجهود مصر فيما يتعلق بمنتدى القوى المدنية والسياسية السودانية الذي عُقدت جولته الأولى في القاهرة خلال يوليو 2024. واتفق الوزراء على مواصلة مشاوراتهم في هذا الصدد خلال الاجتماع الوزاري للمجموعة الرباعية في سبتمبر 2025
العدالة والسلام المستدام
نري أن الدروس المستفادة من تجارب السودان السابقة هي أن التسويات السياسية التي تتجاهل العدالة تنتهي إلى إنهيار جديد، فإذا لم يقترن بيان الرباعية بخطة واضحة لآليات المساءلة – سواء عبر المحكمة الجنائية الدولية، أو آليات وطنية مستقلة بضمانات دولية – فإن أي وقف مؤقت للقتال لن يكون سوى (هدنة هشة) فالضحايا والناجون في درافور والخرطوم والجزيرة وسنجة وكردفان وغيرها يحتاجون إلي إعتراف بجرائم الحرب والإنتهاكات وإلي ضمانات بعدم تكرارها
البعد الإقليمي والمجتمع الدولي:
الرباعية ليست مجرد تحالف عابر، بل هي تجمع قوى ذات نفوذ مباشر في الشرق الأوسط والقرن الإفريقي، فالسعودية والإمارات معنيتان بأمن البحر الأحمر واستقرار المنطقة، أما الولايات المتحدة وبريطانيا تراقبان الملف من زاوية الأمن الدولي، وإحتواء نفوذ روسيا والصين، ومن هنا نستطيع إن نقول ان البيان يعكس توازن مصالح لا مجرد تعاطف مع الشعب السوداني ، و من الناحية الحقوقية فأن الأزمة الإنسانية في السودان تضع المجتمع الدولي أمام مسؤولية أخلاقية وقانونية لانه لايمكن تجاهل أكبر أزمة إنسانية في العالم اليوم وتراجع الاهتمام بقضية السودان، فالقانون الدولي الإنساني يلزم بحماية المدنيين ومحاسبة مرتكبي جرائم الحرب، لكن الإشكالية تكمن في أن الرباعية نفسها تضم دولاً قدّمت في السابق دعم سياسي أو لوجستي لطرف أو آخر، مما يجعل حياديتها موضع تساؤل. وهذا يتطلب شفافية أكبر في إدارة الملف، وإشراك الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي في آليات رقابة مستقلة؟
البيان وإستئناف التفاوض:
من المرجح أن يشكل بيان الرباعية ضغطاً سياسياً جديداً على الطرفين المتحاربين للعودة إلى مائدة المفاوضاتن لكن المشكلة تكمن في أن البيانات السابقة لم تمنع إستمرار الحرب، مما يثير التساؤل التالي : هل يمثل البيان منعطفاً جاداً نحو إطلاق عملية سلام جديدة؟ أم أنه إعادة تدوير للغة دبلوماسية مألوفة دون آليات تنفيذية؟ وهل يفتح الباب أمام جولة جديدة من مفاوضات جدة أو منصة بديلة، مع إدخال أطراف مدنية أكثر وزناً لإعطاء العملية السياسية شرعية أكبر؟ وبالرغم من الإشارة إلى أهمية العملية السياسية الشاملة، فإن البيان لم يمنح حيزاً كافياً لـ أصوات الضحايا والمجتمع المدني السوداني، والصحفيين والصحفيات هؤلاء هم الفاعلون الأساسيون الذين يمكن أن يضمنوا سلاماً عادلاً، وليس مجرد تقاسم سلطة بين أطراف مسلحة، غياب الضحايا عن الطاولة يعني إعادة إنتاج دوامة الإفلات من العقاب، وهو ما يتعارض مع مبادئ العدالة الانتقالية،
حسابات الأطراف الدولية
الولايات المتحدة: تسعى لقطع الطريق أمام أي تمدد روسي في السودان، خاصة في ملف الموانئ البحرية
بريطانيا: تتحرك بدافع تاريخها الاستعماري السابق ومصالحها السياسية والاقتصادية
السعودية والإمارات: تركزان على الاستقرار الحدودي ومنع انهيار كامل للدولة السودانية بما قد يهدد مصالحهما الاقتصادية والأمنية
هذه الحسابات تجعل الرباعية حريصة على وقف الحرب، ولكن وفق صيغة تحفظ مصالحها الاستراتيجية، لكن نري بأن هنالك مخاطر إذا لم تُترجم الأقوال إلى أفعال ومن بين هذه المخاطر هي إطالة أمد النزاع عبر هدنة غير ملزمة، وتفاقم الوضع الإنساني حيث يُترك المدنيون لمصيرهم وسط الجوع والمرض والنزوح، وتعميق أزمة الثقة بين السودانيين والمجتمع الدولي، مما يقوض أي عملية سياسية مستقبلية، وشرعنة الانتهاكات بشكل غير مباشر إذا لم يتم التحقيق فيها ومحاسبة المسؤولين، وبشان التحديات أمام تنفيذ البيان فنري انعدام الثقة بين الأطراف السودانية، وتأكلها وتمدد خطاب الكراهية والعصنرية وتراجع صوت المفكر والمثقف مقابل تمدد خطاب السلاح والحرب ، وتبيان مواقف القوى الإقليمية الأخرى مثل مصر وإثيوبيا وتشاد، وضعف الثقة الشعبية في المجتمع الدولي نتيجة غياب الضغوط الحقيقية لوقف الانتهاكات، فضلاً عن التدهور الإنساني المتسارع الذي يجعل أي تأخير في الحل السياسي كارثة إنسانية متصاعدة؟
إذن ماهو المطلوب من الرباعية:
إنشاء آلية دولية لمراقبة وقف إطلاق النار، تحت إشراف الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي، لضمان التزام الأطراف بوقف العدائيات
حماية المدنيين أولاً، وإنشاء ممرات آمنة لإيصال المساعدات الإنسانية، ووقف استهداف البنى التحتية المدنية (المستشفيات، المدارس، الأسواق) وضمان العدالة والمساءلة، ودعم عمل المحكمة الجنائية الدولية للتحقيق في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، وتأسيس لجنة وطنية مستقلة للعدالة الانتقالية بضمانات دولية، وإشراك المجتمع المدني السوداني في العملية السياسية وكذلك اشراك النساء واصحاب المصلحة والشباب والاعلام ، وإشراك منظمات حقوق الإنسان والضحايا في العملية السياسية، لضمان أن يكون السلام شاملاً وعادلاً، والضغط عبر أدوات ملموسة، وفرض عقوبات على الأفراد والجهات الممولة للحرب والانتهاكات، وتجميد الأصول المالية للقادة المتورطين في جرائم الحربن ووضع خطة دولية لدعم التعافي الإنساني، وإطلاق برنامج إغاثي عاجل يغطي الغذاء والصحة والتعليم للنازحين واللاجئين، وربط الدعم الإنساني بخطة طويلة الأمد لإعادة الإعمار.
الخاتمة:
بيان الرباعية حول السودان يمثل رسالة سياسية قوية، لكنه ليس كافياً بذاته لوقف الحرب، فالتجربة السودانية علمتنا أن البيانات الدولية تظل حبراً على ورق ما لم تُترجم إلى آليات ملزمة: عقوبات محددة، ضغوط اقتصادية، وربما تدخل دبلوماسي أكثر صرامة، ومع ذلك، يمكن النظر إلى البيان باعتباره إشارة لإعادة ترتيب الأوراق، وتهيئة المسرح السياسي لمرحلة جديدة قد تشهد إما بداية نهاية الحرب عبر تسوية سياسية شاملة، أو استمرار النزيف إذا ظلت المصالح الدولية والإقليمية هي الحاكمة على حساب آمال الشعب السوداني، وبالرغم من الأهمية السياسية والدبلوماسية لبيان الرباعية ، يظل ناقصاً إذا لم يترافق مع إرادة واضحة لضمان العدالة للضحايا، فالحروب لا تتوقف فقط بالضغوط الدولية، بل بخلق بيئة يشعر فيها الناس بالأمان وبأن حقوقهم مصانة، وأن من ارتكب جرائم بحقهم لن يفلت من العقاب، لذلك، فإن التحدي الحقيقي أمام الرباعية ليس فقط جمع الأطراف المتحاربة إلى طاولة التفاوض، بل إعادة الاعتبار للمدنيين عبر إنشاء آلية دولية لمراقبة وقف إطلاق النار، ودعم التحقيقات المستقلة في الانتهاكات، وإشراك المجتمع المدني السوداني في صياغة مستقبل ما بعد الحرب، بهذا فقط يمكن للبيان أن يتحول من نص دبلوماسي عابر إلى خطوة حقيقية نحو سلام عادل ودائم، وإلا فإنه سيظل مجرد حلقة أخرى في سلسلة بيانات دولية لم تحمِ حياة السودانيين ولم تُنصف ضحاياهم؟