Home مقالات بين السيرك والكونسورتيوم: قراءة في المشهد السوداني الحالي

بين السيرك والكونسورتيوم: قراءة في المشهد السوداني الحالي

0
بين السيرك والكونسورتيوم: قراءة في المشهد السوداني الحالي
بين السيرك والكونسورتيوم: قراءة في المشهد السوداني الحالي

بين السيرك والكونسورتيوم: قراءة في المشهد السوداني الحالي

دكتور الوليد آدم مادبو

مع انطلاق جولة المفاوضات الجارية في الولايات المتحدة، لا بد من التنبيه إلى حقائق جوهرية تشكِّل الإطار الواقعي الذي سنعمل ضمنه — حقائق لا تليق بها الرومانسية السياسية ولا البلاغة الإنشائية، بل تتطلّب قراءة واقعية هادئة وقرارات عملية مدروسة.

فالمعضلة الكبرى التي تواجه المشهد السوداني لا تكمن في نقص الإرادة الدولية ولا في قسوة الظروف الداخلية فقط، بل في طبيعة التكوينات التي تتصدر المشهد؛ إذ إن حميدتي قادر — بحكم طبيعته الحركية وتركيبته التنظيمية — على اتخاذ القرار وإلزام التحالف به، بينما يظل البرهان عاجزًا، وعجزه هذا هو ما سيعيق إمكانيات التوصّل إلى تسوية مرضية في القريب العاجل.

يمثل البرهان اليوم سيركًا سياسيًا مكتظًّا بمجموعات متنافرة لا يجمع بينها رابط وطني ولا أخلاقي. أقصى ما يربطها هو الخوف المشترك من فقدان النفوذ، والرغبة الغامضة في الحفاظ على ما تبقّى من امتيازات أقلية أثنية تتدثّر بالوطنية لتبرير احتكارها للمؤسسات. أما حميدتي، فيقود كونسورتيومًا أكثر انسجامًا، وإن لم تخلُ بعض مكوناته من الأطماع الشخصية. لكنه يمتاز بوضوح في الرؤية واتساق في الهدف؛ إذ تتحرك مجموعته في إطار مشروع سياسي يسعى — ولو بحدوده الدنيا — إلى تأسيس جمهورية ثانية قائمة على المواطنة لا على الهوية القبلية أو المذهبية.

هذه التشبيه الاصطلاحي بين السيرك والكونسورتيوم (circus vs. consortium) ليست مجرد توصيف سياسي عابر، بل مفتاح لفهم جوهر الأزمة السودانية: فالأول يعبّر عن عبث السلطة حين تتحول إلى مسرح للمصالح المتصارعة بلا فكرة جامعة، بينما الثاني — رغم عيوبه — يعبّر عن إمكانية البناء على الحد الأدنى من الانسجام والهدف المشترك.

في بورتسودان، مهمة بلا همة، وإرث مؤسسي يوظّف لقمع المواطنين وحراسة الامتيازات القديمة. وفي نيالا، همة بلا مهمة، بمعنى أكثر دقة: هنالك طاقة متوثّبة تصطدم بغياب الإرث المؤسسي الذي تركّز لعقود في المركز. هذا التفاوت هو تجسيد رمزي للمشهد الوطني: مركز متخشّب تحكمه الأوليغاركية (المجموعات المتنفذة ماديًا وعسكريًا)، وهامش نابض يعوزه التنظيم والإطار المؤسسي.

أميركا، وهي في سباق مع الزمن قبل اكتمال صعود المارد الصيني، ستسعى لتشكيل المشهد في القرن الأفريقي بما يخدم مصالحها الأمنية والاستثمارية. لكنها تعلم أن الصراع القادم لن يُحسم بالقوة وحدها، بل بالقدرة على بناء شراكات مرنة وواقعية. أما مصر، فليست اليوم في موقع يمكّنها من تعطيل النهضة السودانية، فقد فقدت أوراقها كافة: لا البرهان قادر على طمأنتها، ولا الإخوان يصلحون للابتزاز بعد أن أصبحوا عبئًا عليها.

ينبغي التركيز على المعادلة الداخلية التي تتطلب التخلص من ثقافة “اللعبة الصفرية” واعتماد الديمقراطية التوافقية منهجًا، يتيح التلاقي دون استثمار غضب الجماهير أو التعويل على عواطفها الملتهبة. يجب أن نوازن بين قدرتنا على التماسك الداخلي والحد الأدنى من التوافق الوطني، وبين واقع القوى الخارجية التي تعيد رسم الخارطة السياسية وفق مصالحها.

وفي هذا السياق، لا بد من التفكير عمليًا: يجب تضمين كل مراكز القوة (power brokers) في العملية السياسية، بغض النظر عن مؤهلاتهم الشخصية. فالمؤهلات لم تعد ذات قيمة في مناخ موبوء كهذا. المهم أن تُسند مهمة البناء لرجال دولة حقيقيين — لا ناشطين ولا مهرجين استعراضيين — على أن تتم مراقبتهم من قِبل “برلمان الشباب الثوري” (المطلوب قيامه فور الانتقال إلى وضع مدني ديمقراطي)، إذ هو الوحيد القادر على حماية ألق الثورة وتعديل مسارها نحو السلام والحرية والعدالة.

ختامًا، التحالف الذي يقوده حميدتي والحلو قادر على الصمود — على الأقل خلال فترة المفاوضات — لأن له تماسكًا داخليًا ووضوحًا في الأولويات. أما حلف بورتسودان، القائم على المصلحة الآنية والتوازنات الشخصية، فسوف ينهار لا محالة، فاتحًا الطريق أمام قوة عسكرية وسياسية صاعدة تستطيع ضبط الإيقاع الوطني بالتعاون مع القوى الثورية كافة.

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here