بين مطرقة التهميش وسندان التوظيف السياسي !!صوت الكنابي هل يُستغل أم يُسمع!!
تقرير:حسين سعد
على مدار العقود، ظلت قضية الكنابي في السودان، لا سيما في ولاية الجزيرة، حبيسة التجاهل الرسمي والتهميش الممنهج، رغم إرتباطها الوثيق بتاريخ الزراعة والعمالة والإنتاج الزراعي في مشروع الجزيرة والمناقل، إلا أن أخطر ما يواجه هذه القضية اليوم ليس فقط الإقصاء التنموي أو غياب الخدمات، بل محاولات التوظيف السياسي التي تسعى لتحويل معاناة سكان الكنابي إلى أوراق ضغط سياسية أو أدوات تعبئة لصالح أطراف تخوض بها غمار التحالفات السياسية الهشة والانتهازية ، دون تقديم أي حلول حقيقية لمعاناتهم، إن التوظيف السياسي لقضية الكنابي يضع المجتمعات الهشة في مواجهة خطر مزدوج: من جهة يتم تهميشهم لكسب التعاطف وكسب الأصوات، ومن جهة أخرى يُقابل وعيهم المتزايد وتطلعاتهم للتغيير بالتخويف، أو بوعد كاذب ومؤجل، هذا السلوك السياسي الإنتهازي لا يعالج جذور المشكلة، بل يكرّس واقعاً مشوهاً، يزرع مزيداً من الغبن والاحتقان وسط سكان الكنابي والمزارعين حولهم، وقد أدّى هذا التوظيف إلى خلق إستقطاب إجتماعي داخل المجتمعات الزراعية نفسها، حيث يُنظر لسكان الكنابي أحياناً ككتلة تصويتية أو كوقود للاحتجاجات فقط، لا كأصحاب قضية عادلة تستحق الإعتراف والإنصاف، وهذا يهدد السلم المجتمعي، ويزيد من هشاشة العلاقة بين الكنابي والقرى المجاورة، وبين المزارعين والعمال الزراعيين، في وقتٍ تحتاج فيه البلاد إلى التماسك الإجتماعي وتكافل الفئات المنتجة، إن التسييس المتكرر لقضية الكنابي بدون معالجة جذرية، يحرم هذه الفئة من فرص العدالة والكرامة، ويفاقم معاناة الآلاف من الأسر، ويؤخر الحلول التنموية المطلوبة. ولذلك، فإن حماية قضية الكنابي من الابتزاز السياسي والتلاعب الحزبي يُعد مسؤولية وطنية وأخلاقية لا تحتمل التأجيل.
صندوق إنتخابات:
رغم الأهمية الاقتصادية لسكان الكنابي، الذين شكّلوا العمود الفقري للعمل الزراعي في المشروع، فقد ظلوا في موقع المتلقي للسياسات الإقصائية، والضحايا لصراعات المصالح، إذ جرى توظيف أوضاعهم المعيشية والسياسية كأداة في لعبة شد الأطراف بين النخب المتصارعة، فقد تحولت الكنابي إلى (صندوق انتخابي مؤقت)، يُستدعى عند الضرورة السياسية، ثم يُعاد تهميشه عند إنقضاء الإستحقاق، دون معالجة حقيقية للجذور البنيوية لأزماتهم، هذه القضية كانت أكثر وضوحاً في إنتخابات 1986م في الديمقراطية الثالثة ، ثم جاءت الإنقاذ التي مارست مكر بحق الكنابي التي لها جذور عرقية مع الحركات المسلحة في دارفور عقب حرب الإقليم المنكوب في العام 2003م ، وفي إنتخابات الإنقاذ يتم وعد الكنابي بالخدمات لكن هذا لا يتم، أمام هذا الواقع، تبدو قضية الكنابي في الجزيرة أكثر من مجرد ملف خدمي أو إنساني، بل هي مرآة لعمق أزمة العدالة الاجتماعية في السودان، ولعجز الدولة عن إنتاج نموذج إدماجي عادل لمكوناتها المجتمعية، كما أنها تكشف، من زاوية حقوقية، عن إخفاق مزمن في حماية الفئات الأكثر هشاشة، وضمان كرامتها وحقها في السكن اللائق، والتعليم، والعمل الآمن، والمشاركة الكاملة في الحياة العامة، وهي حقوق كفلها الدستور السوداني والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان
مرمى التسييس:
تتعامل كثير من القوى السياسية، خاصة في أوقات الأزمات الانتخابية أو الحراك الثوري، مع الكنابي بوصفها (كتلة تصويتية) يسهل تحريكها عبر الوعود والخطابات، دون تبنٍ جاد لمطالب سكانها. تُطرح قضية الكنابي في المنابر العامة فقط عندما تحتاج جهة ما إلى ورقة ضغط أو غطاء شعبي، ثم يُعاد طيها عند إستقرار الأوضاع السياسية، وكأنها لا تستحق المتابعة أو المعالجة الدائمة، وقد لوحظ هذا النمط بوضوح إتفاق جوبا وسلام المسارات ، حيث ظهرت موجات من (الإهتمام السياسي) بسكان الكنابي، ووعود بتمليك الأراضي وتحسين الخدمات، وعندما تم تكوين الجبهة الثورية تمت إضافة الكنابي بمكوناتها ، معلوم صراع الجبهة الثورية قبل إنقسامها مع قوي الحرية والتغيير ، وبعد إنقلاب أكتوبر، وإصطفاف الجبهة الثورية مع العسكر وإنحياز بعض مكونات الجبهة الثورية للحرية والتغيير التي بدلت إسمها الي (تقدم) ثم لاحقاً (صمود) حينها إلتفتت إلي كرت الكنابي حيث قامت بإلحاقها بتحالفها.
معاناة مزمنة وتوظيف سياسي :
إن قضية الكنابي تجاوزت أبعادها التنموية والخدمية لتدخل في صلب الحراك السياسي في السودان، حيث بدأت تظهر محاولات واضحة من القوى السياسية لتوظيف هذه القضية ضمن برامجها السياسية، سواء لكسب قواعد انتخابية جديدة أو لإبراز خطاب المظلومية والإستقطاب الإثني أو الطبقي، لقد تحولت الكنابي إلى ساحة صراع سياسي بين قوى مختلفة، بعضها سعى لتقديم نفسها كمدافع عن قضايا المهمّشين، فيما استخدم البعض الآخر القضية كأداة لتقويض الخصوم أو تثبيت مكاسب سياسية ، هذا التوظيف السياسي تراوح بين التبني غير الجاد لقضية الحقوق الاجتماعية لسكان الكنابي، وبين إستغلالها الرمزي والإعلامي في فترات الصراع السياسي وتكوين التحالفات التي لا تصمد طويلاً سرعان ما تنهار، وهو ما يثير تساؤلات جوهرية حول: ما إذا كان هذا التوظيف السياسي قد ساهم فعلاً في تحسين أوضاع سكان الكنابي ؟، أم أنه أعاد إنتاج تهميشهم بصيغ جديدة؟ وهل تُعتبر الكنابي مجرد رصيد انتخابي عابر أم أنها تشكل جزءًا من سؤال العدالة الاجتماعية والتحول الديمقراطي في السودان؟ يجب حل قضية الكنبي بعيداً عن الوصاية السياسية، وتركهم يعبروا عن مطالبهم بأنفسهم، وهذا يتطلب دعماً من الإعلام والمجتمع المدني، ووجود ضمانات بعدم استغلالهم في الصراعات الحزبية أو الصفقات السياسية
الخاتمة:
تواجه قضية الكنابي اليوم مفترق طرق حاسم: إما أن تُطوى من جديد في أدراج الوعود الكاذبة، أو تتحول إلى نموذج للعدالة الاجتماعية في السودان الجديد. لكن هذا لن يحدث ما لم يُسحب البساط من تحت أقدام التوظيف السياسي، ويُعاد صوت الكنابي إلى أهله الحقيقيين – سكانه، وعماله، وأطفاله الذين يستحقون وطناً لا يساوم على كرامتهم، في هذا السياق، فإن الإنصاف التاريخي لسكان الكنابي يتطلب أكثر من مجرد التعاطف أو التناول الإعلامي الموسمي، بل يستلزم إدماجاً حقيقياً في الخطط الوطنية لإعادة البناء بعد الحرب، وإصلاح السياسات الزراعية والإدارية، ومراجعة قوانين الأراضي والتخطيط العمراني، بما يضمن العدالة والمساواة والكرامة الإنسانية، لقد ظلت الكنابي لعقود تمثل (الهامش داخل الهامش)، وعلى الرغم من دور سكانها الحيوي في الإنتاج الزراعي وفي دعم الاقتصاد الوطني، إلا أنهم ظلوا مهمشين سياسياً وخدمياً، وكأنهم يعيشون خارج حسابات الدولة والمجتمع. إن إستمرار هذا الواقع يعكس اختلالاً بنيوياً في مفهوم المواطنة، ويفتح الباب لمزيد من الأزمات الاجتماعية، إذا لم تتم معالجته بجذرية وعدالة، إن معالجة قضية الكنابي لا يمكن أن تتم عبر حلول ترقيعية أو موسمية، بل تتطلب إرادة سياسية حقيقية تنحاز للعدالة الاجتماعية، وتعترف بحق سكان الكنابي في المواطنة الكاملة، وتمكينهم من الأراضي، وتوفير التعليم والصحة والخدمات الأساسية، وضمان مشاركتهم في إدارة شؤونهم، لقد آن الأوان لتتحول قضية الكنابي من ملف مسكوت عنه إلى أولوية وطنية في مسار التحول الديمقراطي، وركيزة أساسية من ركائز العدالة الانتقالية، بوصفها اختباراً حقيقياً لمدى التزام الدولة بمبادئ حقوق الإنسان والمساواة.