ذو النون سليمان، مركز تقدم للسياسات
أولاً: مقدمة
يمثل سيطرة قوات الدعم السريع علي مدينة الفاشر – عاصمة ولاية شمال دارفور- نقطة تحوّل حاسمة في مسار الحرب السودانية المستمرة منذ أبريل 2023.
إقرار القائد العام للجيش عبد الفتاح البرهان وحاكم إقليم دارفور مني أركو مناوي بخروج المدينة عن سيطرة القوات الحكومية، يكشف حجم التحول في توازن القوى داخل البلاد، ويؤشر إلى أزمة عسكرية وسياسية متصاعدة داخل معسكر الجيش وحلفائه.
وفي خطاب متلفز، أوضح البرهان أن مغادرة القوات الحكومية للفاشر جاءت لتجنيبها الدمار، فيما أقر مناوي – في خطاب موجه إلى الشعب السوداني – بوقوع أخطاء في إدارة المعركة من جانب قيادة الدولة والقوة المشتركة، مؤكداً في الوقت نفسه استمرار “معركة الكرامة” والتنسيق مع الجيش ضمن إطار القوة المشتركة لمواصلة القتال ضد قوات الدعم السريع.
ثانياً: الأهمية الميدانية لمدينة الفاشر:
• كانت الفاشر آخر معقل استراتيجي للقوات الحكومية والحركات المتحالفة معها في إقليم دارفور، ومركز قيادة القوة المشتركة التي ضمت فصائل مسلحة موقّعة على اتفاق جوبا للسلام.
• صمدت لأكثر من ستة عشر شهرًا رغم الحصار والهجمات المتكررة، ما جعلها رمزًا لصمود الجيش والحركات المسلحة في الغرب.
• سيطرة الدعم السريع عليها تعني عمليًا اكتمال سيطرته على دارفور وتأمين خطوط الإمداد الخلفية تمهيدًا للتوجه نحو الأبيض ووسط السودان.
• تمثل الفاشر مفصلًا جغرافيًا حيويًا يربط دارفور بكردفان، ويُعدّ فقدانها خسارة استراتيجية كبرى للجيش.
ثالثاً: التداعيات السياسية والعسكرية:
1. إضعاف موقع الجيش:
سقوط الفاشر يقوض السردية الرسمية التي تزعم احتفاظ الجيش بالمبادرة الميدانية، ويضع قيادته في موقف دفاعي سياسيًا وعسكريًا.
2. ارتباك التحالفات المسلحة:
إقرار مناوي بالأخطاء يعكس شرخًا داخل معسكر التحالف مع الجيش، وقد يدفع بعض الفصائل إلى مراجعة مواقفها أو البحث عن تسويات منفصلة مع الدعم السريع.
3. تعزيز موقع الدعم السريع:
السيطرة على الإقليم تمنحه عمقًا ميدانيًا موحدًا من غرب السودان إلى شماله، مع قدرة متزايدة على تنظيم عملياته وإعادة الانتشار نحو الوسط.
4. فشل القيادة الميدانية للجيش:
يعكس الحدث عجز القيادة العسكرية عن الدفاع عن مواقعها البعيدة جغرافيًا عن مركز القرار في بورتسودان، وضعف منظومة القيادة والسيطرة.
رابعاً: الأبعاد الاجتماعية والاستراتيجية
• ترسيخ الانقسام الجغرافي:
تتوزع خريطة الحرب بين مركز وشمال وشرق تسيطر عليه القوات الحكومية، وغرب وجنوب يخضع للدعم السريع، ما يرفع احتمالات تشكل واقع تقسيمي غير معلن.
• انعكاسات اجتماعية خطيرة:
أدت المعارك إلى موجات نزوح واسعة وانهيار الخدمات، مع تفاقم الانقسام الاجتماعي والجهوي.
• انحسار خيار الحسم العسكري:
الحدث يؤكد أن الخيار العسكري بات مستنفدًا، وأن فرص التسوية السياسية – بدفع دولي – تزداد قوة في ظل استنزاف الطرفين.
خامساً: الموقف الدولي
• رحّبت الولايات المتحدة وبعض القوى الغربية بسيطرة الدعم السريع على الفاشر بوصفها فرصة لإحياء المفاوضات الجارية في واشنطن، وتقدمت بمقترح لوقف إطلاق نار إنساني لمدة ثلاثة أشهر وتشكيل لجنة سياسية مشتركة بين الجيش والدعم السريع، دون إشراك مباشر للقوى المدنية.
• رغم الترحيب المبدئي من الطرفين، رفض وفد الجيش التوقيع على المقترح، ما يعكس استمرار التعقيد في المواقف وتباين الرؤى حول مستقبل السلطة.
سادساً: التقدير العام
1. سقوط الفاشر يعيد ترتيب موازين القوى لصالح الدعم السريع ويمنحه تفوقًا ميدانيًا في الغرب.
2. إقرار مناوي بالأخطاء، رغم تمسكه بـ”معركة الكرامة” ، يعكس وعيًا متأخرًا بخلل القيادة والتنسيق، وقد يمهّد لإعادة اصطفاف داخل القوى المسلحة المتحالفة مع الجيش.
3. الانهيار الميداني سيزيد من الضغوط الدولية نحو تسوية سياسية شاملة، باعتبار أن الحرب تجاوزت حدود الحل العسكري.
4. الاحتمال الأكبر هو استمرار الدعم السريع في التمدد شرقًا نحو الأبيض، ما يرفع المخاطر الأمنية على وسط السودان.

التوصيات:
- تشجيع الحوار السياسي – العسكري بين الأطراف المتحاربة برعاية إقليمية محايدة.
- إشراك المكونات المدنية في أي تسوية لتجنب احتكار السلاح والسياسة من طرفين متحاربين.
- دعم الاستجابة الإنسانية العاجلة في دارفور لمنع تفاقم الأزمة المجتمعية.
الخلاصة: - سقوط الفاشر لا يمثل مجرد هزيمة ميدانية للجيش، بل منعطفًا استراتيجيًا يعيد رسم خريطة النفوذ في السودان. فمن جهة، عززت السيطرة موقع قوات الدعم السريع كقوة مهيمنة في غرب البلاد، ومن جهة أخرى كشفت عن فشل القيادة العسكرية والسياسية في إدارة الحرب وتنسيق الجبهات.
إقرار مني أركو مناوي بوجود أخطاء في إدارة المعركة يمثل لحظة مراجعة حرجة داخل معسكر الجيش، لكنه في الوقت ذاته يؤكد تمسكه بخيار القتال ضمن إطار “معركة الكرامة” واستمرار التنسيق مع الجيش.
يبدو السودان مقبلًا على مفترق طرق: إما أن يفتح هذا التحول الباب أمام تسوية سياسية تنقذ الدولة من التفكك، أو أن يدفع البلاد نحو مرحلة جديدة من الانقسام الجغرافي والصراع طويل الأمد بين مراكز القوى العسكرية المتنافسة

