حركية الصراع السوداني في الفاشر
عصام الدين يوسف همة
ما وراء الحرب الضروس والأزمة الإنسانية الطاحنة في الفاشر وما حولها، يتجلى طيف متداخل من الدوافع والمحركات السياسية والاجتماعية. هذا التداخل بلغ حدًا كبيرًا من التعقيد السياسي والاجتماعي، الأمر الذي جعل محاولات تحليل حركية الصراع السوداني في الفاشر قاصرة عن تفسير التضاد والتحول في مواقف القوى المتصارعة ومحركات الاصطفاف سياسيًا واجتماعيًا.
جدير بالذكر أن المعارك المستمرة في الفاشر وما حولها منذ أبريل 2024 ساهمت، وما تزال، في تشكيل الواقع العسكري والسياسي للصراع بين القوات المسلحة وحلفائها من جهة، وقوات الدعم السريع وحلفائها من جهة أخرى.
أزعم أن هناك ثلاثة دوافع أساسية جعلت — وما تزال — معارك الفاشر الراهنة ممكنة، وشكّلت محددًا أساسيًا لمستقبل سودان ما بعد الاستعمار سياسيًا واجتماعيًا:
- الدافع النفسي/الاجتماعي: ذاكرة الجرح والصدمة
في مايو 2024، وخلال حوار ممتد مع أحد رفاق حركة جيش تحرير السودان ضمن مبادرة لوقف التصعيد في الفاشر وحماية المدنيين وتفادي انزلاق المواجهات إلى صراع إثني أو عشائري، أكد لي أن المعركة في الفاشر “شخصية” بالنسبة للمقاتلين في القوة المشتركة.
إن ذاكرة عنف الدولة في بداية الألفية ما زالت متقدة، خصوصًا وأن غالبية المقاتلين في تشكيلات القوة المشتركة كانوا أطفالًا وشهودًا على مجازر التطهير العرقي والإبادة الجماعية والتهجير القسري، التي شاركت فيها مليشيات الجنجويد (التي أصبحت لاحقًا قوات الدعم السريع).
هؤلاء المقاتلون يتشاركون صدمة نفسية تشكّلت أثناء حرب تحرير السودان في دارفور، وهي تجربة حية حين كانوا أطفالًا لا حول لهم ولا قوة، وشهدوا عنف الدولة ضد أسرهم ومجتمعاتهم. ونتيجة لذلك العنف المنهجي، نشأ عدد كبير منهم أيتامًا في معسكرات النزوح.
بالنسبة لهم، تمثل قوات الدعم السريع امتدادًا طبيعيًا لمليشيات الجنجويد، ومقاومتها واجب مقدس وإبراء لجرح ضحايا التطهير العرقي. كما قال أحدهم: “الفاشر شنب الأسد، وكان حيّين ما تقع في يد الجنجويد”.
من هنا، نستخلص أن انحياز الجزء الأكبر من قيادة القوة المشتركة إلى معسكر القوات المسلحة اعتمد على موقف عدد كبير من المقاتلين واستعدادهم للتضحية لمنع سيطرة الدعم السريع على الفاشر.
- الدافع السياسي: الاصطفاف خلف طرفي الصراع
بالنظر إلى خارطة التمايز والاستقطاب في معارك الفاشر، نجد أن حركة جيش تحرير السودان بقيادة مني أركو مناوي وحركة العدل والمساواة بقيادة جبريل إبراهيم، إضافةً إلى عدد من مكونات الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق جوبا لسلام السودان 2020، قادت التحالف العسكري السياسي للقوة المشتركة. الإطار السياسي والدستوري لمشاركتهم في حكومة الأمر الواقع, كان بنود اتفاقية جوبا مقرونة بالوثيقة الدستورية 2019 المعدلة مرارًا,.
ومع تشكّل حكومة أمر واقع في بورتسودان بعد اندلاع الحرب، ودمغ قوات الدعم السريع بالتمرد على الدولة وإقصاء قيادتها من مؤسساتها، اختارت معظم القوى الموقعة على اتفاق جوبا التحالف مع القوات المسلحة والتموضع سياسيًا داخل حكومة الأمر الواقع تحت قيادة الجيش.
في المقابل، اختارت بعض هذه القوى موقف الحياد والدعوة للحل السلمي، لكنها انتظمت لاحقًا إلى التحالف “تأسيس” بقيادة محمد حمدان دقلو، مع الحركة الشعبية شمال بقيادة عبد العزيز الحلو، تحت شعار “السودان الجديد” وإنهاء دولة 1956.
آلة الدعاية في الصراع دمغت المتحالفين مع القوات المسلحة بـ”فلنقايات”، في حين وُصف المتحالفون مع الدعم السريع بـ”الجنجويد”. هذا الاصطفاف السياسي والعسكري أثر نوعيًا على حركية الصراع في السودان ككل، إذ ساهم مقاتلو القوة المشتركة — بخبرتهم القتالية وشراستهم — في استنزاف قوات الدعم السريع وتأخير سقوط الفاشر، ما حرمها من السيطرة الكاملة على دارفور. كما كان لهم دور حاسم في وقف تمدد الدعم السريع إلى شرق وشمال السودان، قبل انسحابهم من الجزيرة والخرطوم.
من الجهة الأخرى، ساهمت القوى المتحالفة مع الدعم السريع من الموقّعين على اتفاق جوبا في توفير دعم اجتماعي وزخم سياسي منح الأخير غطاءً لتبرئة نفسه من استهداف الإثنيات الأفريقية، وساعد في ترسيخ صورته ضمن قوى “السودان الجديد”. كما أمنت هذه القوى مسارات آمنة — نسبيًا — لإخلاء مدنيين من الفاشر إلى مناطق سيطرتها في طويلة والكومة، وفتحت طرق النزوح إلى شمال السودان.
- الدافع الاقتصادي: الجوائز والمكاسب المباشرة
الانحياز للقوات المسلحة مكّن قيادة القوة المشتركة من الحفاظ على مكاسب سياسية واقتصادية في حكومة الأمر الواقع، حتى التلويح بتشكيل حكومة جديدة بقيادة كامل إدريس، حينها لوحت القوة المشتركة بالانسحاب من العمليات العسكرية ورفعت شعار “كرو كالي”. هذا يعكس طبيعة الشرعية السياسية في حكومة الأمر الواقع، ويسمح باستمرار مكاسب القوة المشتركة سياسيًا واقتصاديًا.
بالمقابل، وبعد الإعلان عن تحالف تأسيس في نيروبي والبدء في ترتيب إعلان حكومة أمر واقع موازية في مناطق سيطرة الدعم السريع، حظيت القوى المنحازة له من الموقّعين على اتفاق جوبا بمواقع حيوية في الحكومة..
بعد مناقشة هذه الدوافع، يتضح أن معارك الفاشر وما يصاحبها من اصطفاف سياسي وعسكري تنتج واقعًا جديدًا يفند فرضية الصراع القبلي/الإثني في دارفور، ويتحدى فكرة تقسيم السودان بين مناطق سيطرة الجيش ومناطق سيطرة الدعم السريع.
فالمدافعون عن الفاشر لا يدّعون حماية “حاكورة” قبلية، إذ أن المدينة تاريخيًا — لأكثر من ثلاثة قرون — ليست أرضًا قبلية، بل مركز تنوع إثني واجتماعي. والأمر نفسه ينطبق على المهاجمين، إذ أن الهدف المعلن هو السيطرة الاستراتيجية على الفاشر، بغض النظر عن إثنية المدافعين، مع وجود جنود وقادة في قوات الدعم السريع ينتمون لـ”بري بر” ويصفون القوة المشتركة المتحالفة مع الجيش بـ”الفلنقاية”.
في المحصلة، يمكن استخلاص أن تبعات هذه المعارك — بما أنتجته من معاناة إنسانية جسيمة وأثر سياسي واجتماعي — كشفت تطابق مصالح طرفي الصراع في مواجهة مصالح الشعب السوداني. قد تسقط الفاشر في قبضة الدعم السريع أو تبقى تحت بطش القوات المسلحة و القوة المشتركة، لكنها أضاءت للسودان طريق الخلاص بكشف زيف خطاب الحرب ودوافع الطرفين.