د التوم حاج الصافي زين العابدين .خبير علاقات دولية .
لو كان للعبث السياسي شهادة منشأ، فمسيرة التفويض تستحقها بجدارة. الفكرة في منتهى البساطة: لا نريد رأيك، ولا أسئلتك، ولا قلقك الأخلاقي. نريد صوتك فقط. اهتف، صفّق، وامشِ. التفكير هنا نشاط تخريبي.
الشارع استُدعي لا باعتباره مساحة تعبير، بل باعتباره كومبارس وطني. لافتات متشابهة، شعارات محفوظة، وهتاف مضبوط على الإيقاع الصحيح. أي خروج عن النص نشاز، وأي محاولة لفهم ما يجري تُصنَّف قلة أدب سياسية. تفويض شنو؟ ما مهم. إلى متى؟ سؤال سخيف. ومَن يُحاسَب؟ دي وقاحة صريحة.
لكن السؤال الذي يهربون منه فعلًا أبسط وأخطر: هل تُفوَّض الجيوش أصلًا؟
في الدول المحترمة، الجيوش لا تُفوَّض. الجيوش تُدار بعقيدة وطنية واضحة، تخضع لسلطة مدنية، وتُحاسَب على أدائها، وتُقاس مهنيتها بقدرتها على حماية الناس لا باستدعائهم للهتاف. التفويض ليس عقيدة عسكرية، بل حيلة سياسية.
وما يُطلب له التفويض اليوم ليس جيشًا بالمعنى العالمي، بل حزب سياسي مسلّح بامتياز. حزب له خطاب أيديولوجي، وطموح سلطة واضح، وخصومات داخلية، ولا تنطبق عليه أدنى معايير الجيوش الوطنية المعروفة. جيش بلا عقيدة جامعة، بلا قيادة موحّدة، وبلا مساءلة… لا يُفوَّض، بل يُسأل.
السودانيون يعرفون هذه الحكاية جيدًا. كل مرة يلهث فيها حزب الجيش الأيديولوجي نحو السلطة، لا يجني البلد شيئًا محترمًا. النتيجة دائمًا واحدة: انقلابات، حروب، عزلة، وانهيار دولة. لا مفاجآت هنا، ولا حاجة لادّعاء السذاجة. التاريخ القريب ليس غامضًا، وهو لا يحتاج إلى تفسير إضافي.
الأكثر سخرية — والأقرب للاشمئزاز — أن من ينادي اليوم بتفويض استمرار الحرب، هو أمير المنسحبين من المعارك. بطل البيانات من الخلف، وخطيب الحماسة من المناطق الآمنة. لا يقاتل، لا يتقدّم، ولا يدفع ثمن قراره، لكنه يتسوّل من الشعب وقودًا للحرب، وينتظر منه أن يوقّع شيكًا على بياض وهو واقف في الشمس.
المشهد كامل العبث: قيادة فاشلة تطلب تفويضًا للقتال، وهي أسرع من ينسحب، وأبرع من يبرر، وأبعد من يتحمّل الكلفة. إعلام في إجازة ضمير، استبدل الصحافة بمكبّر صوت. لا صور للخراب، لا أرقام للنازحين، لا ذكر للقتلى. الدم تفصيلة مزعجة تفسد اللقطة،وممنوع ذكر قتلى القصف،فقط النظر بعين صلاح قوش ، والواقع يُقصّ خارج الكادر بلا تردّد.
ويُباع هذا كله باعتباره وطنية. وطنية تعني هنا القدرة على التصفيق دون صداع ضمير، وعلى إسكات السؤال، وعلى تحويل الحرب إلى قدر لا يجوز الاقتراب منه. الوطن اختُصر في هتاف، والسياسة في لافتة، والمستقبل في جملة فارغة: “خلّونا نكمّل وبعدين نشوف”.
بعد أن ينفضّ الكرنفال، ستُطوى اللافتات، وتُنشَر الصور، وتتبخّر التصريحات. الناس ستعود إلى واقعها الحقيقي: حرب بلا أفق، معيشة خانقة، وبلد ماشية بالبركة. التفويض سيظل معلّقًا في الهواء، لكن الفاتورة — كالعادة — ستنزل على الأرض، ويدفعها من لم يُستشاروا أصلًا.
هذه ليست معادلة سياسية معقّدة. هذه معادلة حمقى مكتملة الأركان: قيادة مهزومة، مشروع فاشل، إعلام يطبّل، وشعب يُطلب منه أن يوقّع على الخراب بصوتٍ عالٍ.
والتاريخ؟ لا يصفّق، ولا يهتف، ولا يقبل الأعذار. هو فقط يكتب: هنا طُلِب التفويض… وهنا دُفع ثمن الغباء كاملًا.

