حيدر المكاشفي يكتب :الحرب وجز أعناق الحقائق
وما الحرب الا ما علمتم وذقتم..وما هو عنها بالحديث المرجم..متى تبعثوها تبعثوها ذميمة..وتضر اذا ضريتموها فتضرم..فتعرككم عرك الرحى بثقالها وتلقح كشافا ثم تنتج فتتئم..اذن هكذا هي دائما الحرب نار ورحى تورثان دمارا وهلاكا هائلا كما وصفها الشاعر زهير بن أبي سلمى في معلقته،مقدما ما يمكن اعتباره أبلغ وصف للحرب..ولك أن تتصور حجم الهلاك والدمار والخراب الذي تسببه الحروب اليوم التي تستخدم فيها أحدث الاسلحة الفتاكة، اذا قارنتها بحروب العصر الجاهلي التي عاصرها الشاعر زهير والتي تدور رحاها باسلحة بسيطة وتقليدية من رماح وسيوف وخلافها..فحرب اليوم التي تدور في بلادنا وتستخدم فيها أفتك الاسلحة خفيفها وثقيلها، وبطائراتها المقاتلة ومسيراتها وداناتها وقذائفها الصاروخية وبراميلها المتفجرة،لا تقتل البشر الامنين الوادعين وتجز أعناقهم فحسب،بل أنها أيضا تجز أعناق الحقائق فتصبح الحقيقة من بين أول ضحايا الحرب،حيث تنبري الجماعات الخائضة للحرب والداعمة لها والنافخة في كيرها كما نشهد حاليا وتنخرط في نشاط محموم لاغتيال الحقيقة بعدة وجوه واشكال،لتعبر فوق جثة الحقيقة بل وتدوس عليها لبلوغ مبتغاها وهدفها الذي من أجله تخلصت من الحقيقة والمعلومة الصحيحة، ليخلو لها الجو فتفرخ وتبيض وتملأ الاجواء والاسافير بالاكاذيب والاخبار الملونة والمعلومات المضللة والشائعات،ولهم في ذلك أفانين وطرائق قددا،ومتخصصون متفرغون لصناعة وبث الرسائل المسمومة،وبغياب الاخبار الدقيقة والصحيحة والمعلومات الحقيقية تتوفر لهم البيئة المثالية لأداء أدوارهم القذرة،وفي حالة حربنا السودانية التي تخضع فيها اجزاء من البلاد لسيطرة الجيش واجزاء اخرى خاضعة للدعم السريع،تكون الحقيقة في الحالين هي الضائعة،فلا الجيش يسمح بنشر وبث الا ما يروقه ويطربه ويخدم اغراضه واجندته،ولا مليشيا الدعم السريع تسمح بنشر وبث ما يمسها ويضر بها،ولهذا غابت تماما التغطية الاعلامية والصحفية المهنية المتوازنة والموضوعية عن مجريات ويوميات الحرب كما هي على الارض،أما من هم خارج البلاد ولا سيطرة مباشرة عليهم من طرفي القتال،فتسيطر عليهم اجندتهم الخاصة الموزعة بين الطرفين،فمن داعم منهم للجيش أو داعم للدعم السريع ولا داعم بينهم أبدا للحقيقة،وهكذا تغتال الحقيقة مرتين مرة بالداخل ومرة أخرى بالخارج،ومن عجب أن أفرزت هذه الحرب العبثية طبقة أخرى عابثة تسورت مهنة الاعلام وقفزت عليها بليل بلا علم ولا هدى ولا كتاب منير،وملأت الاسافير والوسائط بغثاء كثيف يثير الغثيان ودونك من يسمون ب(اللايفاتية والتيكتوكرز واليوتيوبرز)..
وسبحان الله كلما نأتي على ذكر مصيبة من مصائب الحرب وافرازاتها الضارة، الا وترافقها ذكرى مصيبة من مصائب (الكيزان)،وليس ذلك بمستغرب فهم من اشعلوا هذه الحرب وما زالوا ينفخون في كيرها،حيث أنهم وعلى امتداد سنين حكمهم الكالحة،كانوا قد جندوا واستقطبوا عددا من الصحافيين والاعلاميين كانوا يعملون الى جانب المنظمين أصلا(من انقاذويين واسلاميين) للدفاع عن النظام بالحق وبالباطل وخدمة أهدافه والترويج لها، على النحو الذي يعرفه متابعو أجهزة الاعلام وقراء الصحف وتشهد عليه (الاراشيف)،وفي مقابل ذلك كان النظام يغدق عليهم الاموال والعطايا والمكرمات والكريات،ويخصهم بالاسفار الرسمية في معية المخلوع وغيره من القيادات الرسمية والحزبية والحركية للاستفادة من النثريات الدولارية والاستمتاع بالاقامة في افخم الفنادق،ويخصهم بقطع الاراضي المميزة وغيرها من التصاديق،فصاروا على رأي المثل يأكلون خبز السلطان ويضربون بسيفه،وغير اجهزة الراديو والتلفزيون والصحافة الورقية،كان للنظام البائد واسلامييه (مجندون) في الاعلام الاليكتروني،حيث انشأ العديد من المراكز والمنصات والمواقع الاسفيرية،وكانت هذه المواقع تنشط في الدفاع عن السلطة ونشر افكارها وافكار الحركة الاسلاموية،كما كانت تبث الشائعات التي تخدم هذه الاغراض الخبيثة،وهي مراكز يعلمها بالاسم العاملون في الوسط الصحفي والاعلامي،بل ان عامة الناس اكتشفوها واطلقوا عليها مسمى شعبي (الجداد الاليكتروني)،ومن احد هذه المراكز درجوا على اعداد وانتاج عدد من الافلام الوثائقية المعادية للثورة وللشباب والشابات الثائرات،منها الفيلم الخسيس والخبيث (خفافيش الظلام) الذي حشوه بمحتويات مفبركة مسيئة لشباب الحراك الثوري والاعتصام امام مقر قيادة الجيش،ولمواكبة التطورات التقنية المتلاحقة انشأوا مركزا حديثا يمارس نشاطه بشكل سري من على مبنى بضاحية الرياض شرقي الخرطوم،ودفعوا بكوادر بارزة منهم معلومون بالاسم لادارته،وبعد الثورة تحول نشاط هذه المواقع والكوادر الصحافية المجندة الى معول هدم للثورة،فعمدوا لحياكة المؤامرات وبث الرسائل المسمومة والشائعات تجاه الحكومة الانتقالية وتخريب مجمل عملية الانتقال المدني الديمقراطي،بغرض دنئ هو احباط الرأي العام وتأليبه ضد الثورة والثوار والحكم المدني الديمقراطي،لاجهاض الحراك الشعبي بقيادة ثورة مضادة،سعيا للعودة مجددا لسدة الحكم،وها هو نفس هذا النشاط المسموم يتواصل الان بكل الامكانات والخبرات السابقة لخدمة اهدافهم من هذه الحرب التي اشعلوها وبعثوها ذميمة كدمامة افعالهم الذميمة..