د. مازن أبو الحسن يكتب:”أُكِلْتُ يومَ أُكِلَ الثورُ الأبيض”
فيلادلفيا – الولايات المتحدة الأمريكية
قراءة في اختلال ميزان القوى في الشرق الأوسط ومحاولات تحييد البرنامج النووي الإيراني
“تأبى الرماحُ إذا اجتمعن تكسُّراً
وإذا افترقن تكسّرت آحادا”
في الحكاية العربية الشهيرة، عاش ثلاثة ثيران (أسود، وأحمر، وأبيض) في مرعى واحد، متحدين في وجه الخطر. إلى أن جاء الأسد، فأقنع الثورين الأسود والأحمر بالتخلي عن رفيقهما الأبيض، ليأكله أولًا. ثم ما لبث أن افترسهما واحدًا تلو الآخر. حينها قال الثور الأخير عبارته الخالدة: “أُكِلْتُ يومَ أُكِلَ الثورُ الأبيض”.
هذه الحكاية الرمزية تختصر ببساطة مؤثرة ما يجري في الشرق الأوسط اليوم. إذ تُستهدف القوى الإقليمية الكبرى، واحدة تلو الأخرى، في عملية تفكيك ممنهجة تُفضي إلى بقاء قوة واحدة مهيمنة: إسرائيل.
إيران… خصم أيديولوجي وجار دائم
منذ الثورة الإسلامية في عام 1979، تبنّت إيران خطابًا ثوريًا حاول تصدير النموذج الإيراني إلى دول الجوار، ما أثار توترات مع العديد من الدول العربية، خاصة الخليجية منها، وفاقمتها الانقسامات الطائفية والسياسية والصراعات بالوكالة.
ومع ذلك، فإن تجاهل أن إيران دولة عريقة وجارة أبدية للعرب منذ آلاف السنين هو تجاهل للتاريخ والجغرافيا. فعلى الرغم من الخلافات، ثمة تقاطعات حضارية وثقافية ودينية كثيرة. كما لم تُظهر إيران – رغم صداماتها – أطماعًا في التوسع خارج حدودها المعروفة.
وقد ظلّ موقف طهران من القضية الفلسطينية ثابتًا: داعمًا لحق الفلسطينيين في إقامة دولتهم على أراضيهم، وفق قرارات الشرعية الدولية.
إسرائيل… من مشروع دولة إلى شرطي المنطقة
على الجانب الآخر، ترفض إسرائيل منذ تأسيسها الالتزام بقرارات الأمم المتحدة الخاصة بفلسطين، وتتبنى منذ عقود نهجًا توسعيًا، اتّسع بشكل ملحوظ في عهد حكومة نتنياهو، التي لا تخفي أطماعها في “شرق أوسط جديد” تكون فيه إسرائيل “الشرطي الإقليمي” وصاحبة اليد الطولى سياسيًا وعسكريًا.
تحتفظ إسرائيل بترسانة نووية سرّية غير خاضعة لأي رقابة دولية، وفي الوقت ذاته تُمارس ضغوطًا ممنهجة لتحييد أو تدمير أي قوة إقليمية منافسة، وعلى رأسها إيران. وقد أسهمت في تأجيج النزاعات أو استثمارها في فلسطين، العراق، سوريا، لبنان، وليبيا.
النووي الإيراني… قلق مشروع أم ازدواجية انتقائية؟
صحيح أن ثمة قلقًا مشروعًا من احتمال امتلاك إيران سلاحًا نوويًا، وهو قلق تتشاركه دول عربية وغربية. لكن المثير للدهشة أن هذا القلق لا يتحوّل إلى مطلب متكافئ وشامل لنزع السلاح النووي من جميع دول المنطقة، بما فيها إسرائيل.
في واقع الأمر، يُستخدم هذا القلق لتبرير تحالفات غير مُعلنة مع إسرائيل، أو للتغاضي عن سياساتها التوسعية، بينما تُجرّم إيران وحدها وتُصوَّر كتهديد مطلق.
هكذا سقط “الثور الأبيض” أولًا: فلسطين، العراق، سوريا، ليبيا… وتحول الثور “الأحمر” – إيران – إلى الهدف التالي، وسط صمت أو تواطؤ من بعض عواصم المنطقة.
الخطر القادم: تفكيك البقية…
تحييد إيران، في غياب رؤية استراتيجية عادلة وشاملة للتوازن الإقليمي، لن يُنهي الصراع، بل سيُمهّد الطريق لاستهداف قوى عربية أخرى مثل مصر ودول الخليج لاحقًا، في ظل سعي إسرائيل للهيمنة بلا منازع.
عندها، ستكون العبارة الأليمة “أُكِلْنا يومَ أُكِلَ الثورُ الأبيض” قد تجاوزت رمزيتها لتُصبح واقعًا تاريخيًا محزنًا.
.
ما المطلوب؟
ليس المطلوب الانحياز الأعمى إلى إيران، بل التفكير الجماعي الاستراتيجي بمصالح الإقليم على المدى البعيد، ومغادرة موقع ردّ الفعل إلى موقع الفعل الواعي والمسؤول.
من هنا، فإن ما تحتاجه المنطقة اليوم هو:
~ تفعيل الحوار الخليجي–الإيراني بصورة مباشرة وجادة، وفتح قنوات لتذويب الخلافات القديمة على قاعدة الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة.
~ التأكيد على حق جميع الدول الملتزمة بالاتفاقات الدولية في الاستفادة من الطاقة النووية السلمية في مختلف المجالات الحيوية، بما يسهم في تحقيق التنمية المستدامة والاكتفاء الذاتي.
~ الدفع نحو شرق أوسط خالٍ من أسلحة الدمار الشامل، بما فيها السلاح النووي الإسرائيلي، دون استثناءات.
~ الضغط على القوى الكبرى لإلزام إسرائيل بالانضمام إلى معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية (NPT)، مثل باقي دول العالم.
~ التعاون مع المؤسسات الدولية لحثّ إسرائيل على تنفيذ قرارات الشرعية الدولية، بما يضمن استقرارًا إقليميًا مستدامًا.
في عالم تتآكل فيه الروابط الإقليمية لصالح التحالفات العابرة، تبقى قصة الثور الأبيض مرآة ساخرة ومؤلمة لواقع يُعاد إنتاجه بصيَغ عصرية. فهل نتعلّم من دروس التاريخ، أم نظل نردّد العبارة… بعد فوات الأوان؟