عصام عباس يكتب :سلام جوبا: اتفاق الدم والخيانة
منذ استقلاله في عام 1956، لم يعرف السودان استقرارًا طويل الأمد. فقد ظلت تتعاقب عليه الأنظمة العسكرية التي تتخللها فترات مدنية محدودة. عجزت الحكومات المتتالية في إيجاد حل جذري للنزاعات المسلحة الداخلية والحروب الأهلية الطويلة التي أرهقت البلاد سياسيًا واقتصاديًا وإنسانيًا. جذور الصراع، وحسب كثير من الدراسات الأكاديمية المتخصصة، تعود لأسباب متعددة ابرزها غياب عقد اجتماعي شامل، والتهميش السياسي والاقتصادي لمناطق الأطراف، والفشل المتكرر للنخب الحاكمة في تحقيق العدالة والتنمية المتوازنة.
ففي مسعى السلطات المتعاقبة لانهاء النزاعات المستمرة، تم توقيع عديد من اتفاقيات السلام ، كانت في مجملها محاولات لتسكين الألم لا لمعالجة الجذور:
فاتفاقية أديس أبابا 1972، أنهت حرب الجنوب الأولى بين 1955 و1972، وحققت مكاسب مرحلية للجنوبيين، لكنها انهارت سريعًا بسبب نقض المركز لوعود الحكم الذاتي وتقسيم الجنوب، ما أدى لاندلاع حرب ثانية أكثر شراسة.
ثم جاءت اتفاقية السلام الشامل 2005، وبرغم انها وضعت حدًا لحرب الجنوب، لكنها في ذات الوقت مهدت لانفصال جنوب السودان لاحقًا، وفشلت في تصدير نموذج حكم ديمقراطي عادل إلى بقية أجزاء البلاد.
واستمرت المحاولات لانهاء صراع دارفور ومن ابرز تلك الاتفاقيات كانت اتفاقية أبوجا (2006) كمحاولة لإنهاء النزاع، لكنها فشلت لأنها شُرعت في غياب معظم الفصائل، وافتقرت إلى دعم شعبي حقيقي، وانتهت بتعميق الانقسام في دارفور
ثم اعقبتها اتفاقية الدوحة (2011) والتي فشلت أيضًا في تحقيق السلام في دارفور، وأصبحت أداة لإعادة إنتاج نخب موالية للسلطة بدلاً من معالجة جذور الصراع.
جميع هذه الاتفاقيات كانت تدور حول تقاسم السلطة والثروة، دون الالتفات إلى مشروع وطني شامل يعالج التهميش البنيوي في السودان إلى أن جاءت قاصمة الظهر الكبرى تلك الفاجعة المسماه اتفاقية سلام جوبا.
فقد وقعت اتفاقية جوبا في أكتوبر 2020، في أعقاب ثورة ديسمبر المجيدة التي أسقطت نظام الانقاذ. قُدمت الاتفاقية في البداية كخطوة على طريق السلام الشامل، وادّعى القائمون عليها أنها تجسيد لمطالب الثورة. لكن سرعان ما اتضح أن الثورة هي أول ضحاياها.
الكل يعلم ان حكومة الثورة الاولى جاءت بتوافق القوى الحية على حكومة تكنوقراط مستقلة تعبر عن إرادة الشعب. لكن اتفاق جوبا أعاد صيغة “تقسيم الغنائم” السياسي، فتم حل الحكومة الانتقالية، وشُكلت حكومة جديدة على أساس محاصصة حزبية وتنظيمية، ضمت قادة الحركات المسلحة كمشاركين اساسيين في السلطة غير آبهين بثورة ديسمبر وقيمها ومطالبها بزعم انهم وصلوا الي مبتغاهم بحد السيف وان الفضل يعود للبندقية التي حملتهم الي كراسي السلطة لا الي الشارع الثوري السوداني .
هذه الخطوة نسفت مبدأ الثورة القائم على الكفاءة والاستقلالية، وفتحت الباب أمام تنافس محموم على المناصب، مما أدى إلى تفجير الخلافات بين رفقاء الثورة، وتسميم العلاقة بين المكونين المدني والعسكري، وهيأت الأجواء للانقلاب العسكري في أكتوبر 2021.
لم يتوقف ضرر ذلك الاتفاق المعيب عند تقويض حكومة الثورة، بل إن أبرز قادة الاتفاقية – حركة العدل والمساواة بقيادة جبريل إبراهيم، وحركة تحرير السودان جناح مني أركو مناوي – انحازوا للانقلاب العسكري وتخلوا عن الوثيقة الدستورية الحاكمة والقوا بمشروع الانتقال الديمقراطي في غيابة الجب، بل شاركوا بفعالية في الحكومة الانقلابية، مما كشف عن حقيقة الاتفاق: لم يكن اتفاق سلام، بل اتفاق سلطة.
المتابع للاحداث يتضح له جليا ان اتفاق جوبا لم يؤد إلى تهدئة الأوضاع، بل تسبب في تأجيج النزعات الجهوية والقبلية. فقد شعرت كثير من المكونات السودانية الأخرى – خاصة في الشرق – بالتهميش المتجدد. برزت أصوات تطالب بتعديله أو إسقاطه، وعلى رأسها الناظر ترك ومكونات البجا التي رأت أن الاتفاق كرس لتهميش الاقليم لصالح اقاليم اخرى.
هكذا، تحول اتفاق جوبا إلى وقود لصراعات جديدة بدلًا من أن يكون أداة لإحلال السلام، وأصبح غطاءً لتقاسم السلطة بين نخب مسلحة تفتقد إلى التفويض الشعبي.
إن اتفاق جوبا للسلام ليس سوى اتفاق نخبوي فوقي أُبرم في سياق غير مكتمل ودون مشروع وطني حقيقي جامع. فشل في تحقيق أي اختراق في مسار السلام، ونجح فقط في إعادة تدوير أزمة السلطة. لقد مثّل خيانة حقيقية لثورة ديسمبر، وأدى إلى تفاقم الانقسامات، وتغذية الصراعات العرقية، وتقويض الانتقال الديمقراطي.
ولهذا، فإن اتفاق جوبا هو بحق أسوأ اتفاقية سلام في تاريخ السودان وكان الاحرى ان يسمى اتفاق جوبا للصراع عوضا عن السلام. انه لم بفشل في تحقيق السلام فحسب، بل أجهز على حلم التغيير الذي صنعه الشعب بدمه وتضحياته وكان سببا مباشرا في الحرب الضروس التي يعيشها السودان منذ ابريل ٢٠٢٣.