الأحد, ديسمبر 21, 2025
الرئيسيةمقالاتعن الدولة، وفائض القيمة، وأوهام البراءة

عن الدولة، وفائض القيمة، وأوهام البراءة

دكتور الوليد آدم مادبو

حين كانت جدّتي لوالدي، غالية – رحمها الله – الملقّبة بـ«أم قرين»، تذكر أحد تجّار الجلابة، كانت تسبق اسمه بعبارة جاهزة، مشبعة بحسن النيّة واليقين الشعبي: «فلان دا، ما شاء الله، ربنا رزقو». ثم تحكي كيف جاء إلى دار الرزيقات مفترشًا حفنة شطة وبعض المحدّقات، أو جزارًا في دار المسيرية يفترش الكرشة، قبل أن يتحوّل، بعد سنوات قليلة، إلى واحد من كبار التجّار.

ومنذ صغري، ظلّ في داخلي تحفّظ صامت على هذه العبارة. لا لأنني أنكر الرزق، بل لأنني أرفض تديين الامتياز، وتحويل نتائج بنى اقتصادية وسياسية غير عادلة إلى فعل غيبي منزّه عن السؤال. فالرزق، في الواقع الاجتماعي، لا ينزل على الأفراد في فراغ. ما يصنع الثراء، في كثير من الحالات، ليس الاجتهاد وحده، بل هندسة كاملة لعلاقات الإنتاج: دولة تمسك بالمصرف، وتتحكّم في الأرض، وتحمي الاحتكار، وتعيد توزيع الفرص داخل دائرة ضيّقة من القربى والمصالح. هنا، لا يكون الرزق حدثًا فرديًا، بل نتيجة نظام.

هذا ما عبّر عنه سمير أمين بوضوح حين ربط تراكم الثروة في الأطراف ببنية مركزية تعيد تصدير فائض القيمة إلى النخب، لا إلى المجتمعات المنتِجة. وهي الفكرة نفسها التي طوّرها عطا البطحاني في تحليله للدولة السودانية بوصفها دولة ريعية، لا تنتج عدالة، بل تعيد إنتاج الامتياز السياسي عبر الاقتصاد. أما عمر شركيان، فقد لفت إلى أن هذه العلاقات لا تُدار بالمال فقط، بل بالهوية، والانتماء، ومنطق “من هو داخل الدولة ومن هو خارجها”.

بهذا المعنى، لم تكن الدولة السودانية، في تاريخها الحديث، دولة الجميع. لقد ورثتها نخبة محدودة من العهود التركية والاستعمارية، ثم أعادت إنتاجها كغنيمة، لا كعقد اجتماعي. ومنذ ذلك الحين، ظلّت الموارد تُدار بمنطق السيطرة، لا بمنطق التنمية. ولهذا، حين ننظر إلى خريطة السيطرة على المحاصيل الزراعية، والثروة الحيوانية، وشبكات التصدير، نلاحظ نمطًا ثابتًا: هيمنة مركزية على موارد الأطراف. ليس الأمر تفوّقًا فرديًا، ولا مصادفة تاريخية، بل مصلحة بنيوية: إبقاء مناطق الإنتاج ضعيفة، لأن قوّتها الاقتصادية تعني وعيًا سياسيًا، ووعيها يهدّد دولة الامتياز من جذورها.

في هذا السياق، لم يُسمح لنخب الأطراف – حين سُمح لها أصلًا – إلا بأدوار وسيطة: سمسرة، تمثيل اجتماعي، أو وظائف هامشية داخل السوق، دون شراكة حقيقية في اتخاذ القرار أو في توجيه فائض القيمة. وظلّت الموارد تُستخرج من الأرض والإنسان، ثم تُرحّل إلى المركز، حيث تُعاد صياغتها كثروة خاصة، لا كحق عام.

ومن داخل هذه البنية، يمكن فهم ما أسميه هنا “حالات كاشفة” لا بوصفها استثناءات أخلاقية، بل بوصفها تجسيدًا لنمط كامل. إحدى هذه الحالات المتداولة في الذاكرة الاقتصادية والسياسية، هي حالة رجل أعمال نشأ في المجلد، داخل بيئة إنتاجية هامشية، قبل أن ينتقل مع أسرته إلى الخرطوم، ويصعد طبقيًا داخل منظومة المركز. هذه الحالة – كما يَعرفها كثيرون – ارتبط اسمها لاحقًا باحتكار تصدير الصمغ العربي (طلح وهشاب)، عبر علاقات وثيقة مع أجهزة الدولة في عهد الإنقاذ.

المفارقة هنا ليست في الصعود الاجتماعي ذاته، بل في انقطاع الولاء البنيوي: فالمناطق التي أُنتجت منها الثروة لم تشهد استثمارًا يُذكر في التعليم، أو الصحة، أو تطوير سلاسل الإنتاج. ولم تُعاد أي قيمة تُقارب حجم ما استُخرج. بل على العكس، جرى – بحسب ما هو شائع صحفيًا ومتداول عامًا – توظيف هذه الثروة في تعميق الاندماج داخل نخب المركز، لا في بناء قاعدة تنموية في الهامش.

الأخطر من ذلك أن هذا الصعود الاقتصادي تزامن مع خطاب سياسي “مدني–ديمقراطي” يُقدَّم كواجهة أخلاقية، دون قطيعة حقيقية مع البنية التي صنعت الثروة أصلًا. وهنا تتجلى المفارقة التي نبّه إليها سمير أمين مرارًا: لا يمكن الحديث عن تحوّل ديمقراطي حقيقي دون تفكيك علاقات الإنتاج غير العادلة. فالديمقراطية التي تتعايش مع الاحتكار ليست انتقالًا، بل إعادة تموضع.

إن القبول بالتفاوض مع دولة الامتياز، دون المساس بأساسها الاقتصادي، لا يعبّر عن واقعية سياسية، بل عن عجز أخلاقي عن قطع الحبل السرّي مع نظام صاغ الثروة والسلطة معًا. وهذا ليس اتهامًا لأفراد، بل توصيف لمسار.

اليوم، يتشكّل وعي جديد في مناطق الإنتاج، وخصوصًا في غرب السودان. وعي لا يدعو للانتقام، ولا لتصفية حسابات، بل لإعادة تعريف الشراكة الوطنية. شراكة تُعاد فيها هيكلة علاقات الإنتاج، ويُعاد توزيع فائض القيمة: على المنتجين، وعلى التنمية، وعلى البنية المؤسسية من تعليم وصحة وبنية تحتية. فليس من العدل، ولا من المنطق، أن تُباع الموارد الخام بأبخس الأثمان إلى الوسطاء، بينما تتضاعف قيمتها في الأسواق الإقليمية والعالمية. ذلك ليس سوقًا حرًا، بل نهبٌ منظّم، مهما حسُنَت لغته.

في النهاية، ليست هذه معركة ضد أسماء، ولا خصومة مع أشخاص، بل مواجهة مع وهم قديم: أن ما تراكم عبر الدولة يمكن تبريره بالدين، وأن ما سُلب عبر القوة يمكن تسميته رزقًا. الوعي ليس تخوينًا، بل تحرّر. وحين يتحرّك التاريخ، لا يسأل عن النوايا، بل عن المواقع.

أما الرزق، فسيظل رزقًا حقًا، حين لا يُبنى على فقر الآخرين.

مقالات ذات صلة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

الأكثر شهرة

احدث التعليقات