في الذكرى العشرين لرحيل الدكتور جون قرنق دي مبيور حين غاب القائد… وبقي الحُلم معلّقًا بين دولتين ممزّقتين
بقلم: مازن أبوالحسن
بعد عشرين عامًا على الرحيل المفاجئ للدكتور جون قرنق، ما زال السودان، شمالًا وجنوبًا، يدفع ثمن غياب رجلٍ لم يكن مجرّد قائد سياسي، بل حاملًا لمشروع وطني عابر للحدود والهويات الضيقة. مشروعٌ كان من شأنه أن يعيد رسم خارطة الدولة على أسس العدالة والمساواة والمواطنة — لولا أن توقف الزمن في 30 يوليو 2005.
■ سقوط الحلم في قلب الجبل
في ظهيرة الثلاثين من يوليو 2005، وبينما كانت الخرطوم وجوبا على موعد مع منعطف تاريخي، اصطدمت مروحية الزعيم العائد دكتور جون قرنق بجبل زوليا في سلسلة جبال الأماتونغ بجنوب السودان، في حادثٍ لا يزال يحمل الكثير من الغموض. وكان ذلك بعد ثلاثة أسابيع فقط من استقباله الأسطوري في الخرطوم وتعيينه نائبًا أول لرئيس الجمهورية ورئيسًا لحكومة جنوب السودان، حين خرجت الملايين إلى الشوارع تهتف باسمه، وترى فيه بطل الحرب والسلام، ورمز الوحدة الممكنة.
“المشكلة ليست في مَن يحكم السودان، بل في كيف يُحكم السودان.”
— جون قرنق
قرنق لم يأتِ إلى الخرطوم فاتحًا، بل حاملاً مشروعًا: السودان الجديد. وكان هذا المشروع نقيضًا لما عرفه السودان من مركزية مفرطة وتمييز عرقي وديني أدخله في دوامة صراعات لا تنتهي.
■ الحلم الذي تفتّت إلى دولتين
برحيل قرنق، دخل السودان مرحلة انتقال هشّة افتقدت للرؤية الواضحة. ورغم توقيع اتفاقية نيفاشا للسلام الشامل، تحوّلت تدريجيًا إلى ممر للانفصال بدل أن تكون جسرًا لإعادة بناء الدولة الموحدة.
وفي عام 2011، أُعلن استقلال جنوب السودان. لكن ما بدا انتصارًا لحلم الاستقلال، سرعان ما انقلب إلى كابوس:
-حرب أهلية دامية في الجنوب لا تزال مستمرة بأشكال متعددة.
-انهيار اقتصادي وفساد مستشرٍ في كلا الدولتين.
-تعمّق التهميش، ليس فقط على أساس جغرافي، بل أيضًا على مستوى الطبقات والفرص.
-والأخطر: انزلاق السودان الشمالي نفسه إلى حرب أهلية طاحنة وانقسام دموي، وسط إخفاق سياسي شامل، وفشل ذريع للنخب الحاكمة في إيقاف نزيف الدولة.
“Let us become Sudanese. Only Sudanism can unite us.”
— الدكتور جون قرنق
■ غاب القائد… وبقيت الأسئلة
جون قرنق لم يكن معنيًا فقط بالجنوب أو الهامش، بل كان مشغولًا بمستقبل السودان كله — شمالًا وجنوبًا، شرقًا وغربًا. رؤيته قامت على بناء دولة مدنية حديثة، تقوم على أساس المواطنة والعدالة الاجتماعية وتوزيع السلطة والثروة بعدالة.
لكن بعد رحيله، لم تنجح أي من النخب السياسية، شمالًا أو جنوبًا، في وراثة مشروعه. كانت هناك محاولات، لكنها سرعان ما سقطت في مستنقع المصالح الضيقة والخلافات القاتلة، وسط غياب إرادة سياسية حقيقية وازدياد النزاعات والانقسامات.
واليوم، فيما تتساقط المدن السودانية تحت نيران الحرب، وتغيب الدولة عن مشهدها، وتتعمّق الانقسامات الجهوية والعرقية، ويُستباح الوطن بلا رؤية وطنية جامعة — يبدو السودان أكثر احتياجًا من أي وقت مضى إلى مشروع كـ”السودان الجديد”.
■ بعد عشرين عامًا… ماذا تبقّى من الحلم؟
في الذكرى العشرين لرحيل الدكتور جون قرنق، لا يسعنا إلا أن نترحم على روحه الطاهرة، ونتأمل أثر الغياب في ظل حاضر مأزوم، مفتوح على كل السيناريوهات المظلمة. لقد صار السودان، شمالًا وجنوبًا، نموذجًا للفشل السياسي بعد أن خسر فرصة تاريخية لإعادة بناء الدولة على أسس جديدة.
لكن، في المقابل، لا تزال أفكار “السودان الجديد” تنبض في وجدان آلاف السودانيين الذين لم يتخلوا عن الحلم. فالوحدة، وإن تمزّقت، ليست مستحيلة. والعدالة، وإن أُجهضت، لا تزال ممكنة.
السودان الجديد… لم يكن حلم رجل، بل أمل شعب بأكمله.
■ كلمة أخيرة
الزمن لا يعود إلى الوراء، نعم.
لكن التاريخ لا ينسى الرجال الكبار، ولا يتجاوز الأفكار العظيمة.
لقد غاب الزعيم، لكن مشروعه لا يزال حيًا —
ينتظر من يرفعه من جديد،
في وجه الظلم والانقسام والخذلان،
وفي وجه الحرب التي تأكلنا جميعًا…
شمالًا وجنوبًا.