د. التوم حاج الصافي – خبير علاقات دولية
في ذكرى ديسمبر السلمية المجيدة، لا يجوز اختزال الجريمة في مجرد رد دموي مباشر من الكيزان، رغم أن مواجهتهم للثوار بالرصاص الحي وقتلهم أبناء وبنات هذا الوطن بدمٍ بارد جريمة مكتملة الأركان، موثقة، ولا تسقط بالتقادم. فهذا السلوك الإجرامي ليس استثناءً، بل هو جوهر مشروعهم السياسي القائم على القتل والقمع ونهب الدولة.
لكن الفاجعة الأكبر، والخيانة الأوضح، هي ما نشهده اليوم من عودة أصوات العمالة والانتهازية، من بقايا ومنتفعي دولة الكوز الفاسدة، أولئك المتعجلين للعودة إلى موائد الفساد والدم. أصوات تنادي بلا مواربة، وبوقاحة غير مسبوقة، بقتل الثوار، وتعتبر دماء الشباب ثمناً مشروعاً لاستعادة سلطتهم المنهوبة.
الأكثر استفزازاً ووقاحة هو الترويج لرواية كاذبة ومفبركة تزعم أن هؤلاء الجنود هم من “حرروا الخرطوم”، في محاولة خسيسة لإعادة كتابة التاريخ وتبييض الفشل والعار.
والحقيقة، التي يعرفها كل من عاش تلك اللحظات، أن ما جرى لم يكن تحريراً، بل انسحاباً واضحاً للجنجويد رأيناه بأم أعيننا. لم يكن نصراً، ولم يكن بطولة، بل كان مشهداً للفوضى والانهيار، تُحاول آلة الدعاية اليوم تغليفه بلغة الانتصارات الوهمية.
والحقيقة الأخطر، التي يحاولون دفنها بالصمت والتضليل، أن القوات النظامية ـ جيشاً وشرطةً وأمناً ـ قد هربت أمام أعين الشعب. تركت المواطنين عُزَّلاً، بلا حماية، بلا قانون، بلا دولة. اختفت من الشوارع، أغلقت ثكناتها، وتخلّت بالكامل عن واجبها الأساسي في حماية المدنيين، وهو الواجب الوحيد الذي يبرر وجودها أصلاً.
ثم، وبعد أن تركت الشعب لمصيره، عادت لاحقاً بكل غطرسة وقوة، لا لمواجهة المليشيات ولا لحماية الوطن، بل لتستأسد على المدنيين، وتقمع المواكب السلمية، وتعيد إنتاج ذات الدولة البوليسية التي فجّرت ثورة ديسمبر من جذورها.
الأكثر خطورة، والأشد فداحة، هو ما تكشف لاحقاً من وقائع لا يمكن إنكارها:
أن عناصر من الشرطة والجيش والأمن كانوا، في لحظات مفصلية، يتخفّون بملابس الدعم السريع، أو ينسحبون عمداً من المشهد، تاركين المواطنين تحت رحمة السلاح والفوضى. هذا ليس خطأً تكتيكياً، ولا ضعفاً عابراً، بل خيانة صريحة للشعب، وتواطؤ مكشوف، أو في الحد الأدنى عجز مهين لا يليق بمؤسسات تدّعي الوطنية والسيادة.
لا يمكن اليوم القبول بخطاب المزايدة الوطنية، ولا بأسطورة “المنقذ العسكري”، ولا بتجارة الشعارات.
من يقتل الثوار، أو يبرر قتلهم، أو يحرّض عليه، أو يتستر على القتلة، هو عدو مباشر لثورة ديسمبر، مهما ارتدى من زي، ومهما رفع من رايات، ومهما احتمى بخطاب الأمن والسيادة.
ذكرى ديسمبر ليست مناسبة للتزييف، ولا منصة لإعادة تدوير القتلة والخونة.
هي لحظة محاسبة، وذاكرة شعب، وشهادة على من وقف مع الجماهير، ومن هرب، ومن تواطأ، ومن عاد لاحقاً ليقمع المدنيين بعدما عجز عن حمايتهم.
والتاريخ، مهما طال الزمن، لا ينسى… ولا يغفر.

