بقلم د. التوم حاج الصافي زين العابدين .نيويورك .
خبير العلاقات الدولية
لم تعد الحرب الدائرة في السودان مجرّد صراع مسلح خرج عن السيطرة، بل تحوّلت إلى حرب عبثية مكتملة الأركان، تتحمل قيادتها العسكرية المسؤولية السياسية والأخلاقية كاملة. فحين تُدار الدولة بعقلية الهروب، وتُقاد الجيوش بلا رؤية، يصبح الخراب نتيجة منطقية لا حادثة طارئة.
قادة الجيش السوداني اليوم لا يواجهون الكارثة، بل يمارسون سياسة النعامة بامتياز: يرون الانهيار، يسمعون صراخ المدن، ويطّلعون على تقارير الدمار، ثم يدفنون رؤوسهم في رمال الخطاب الإنشائي، وكأن ترديد الشعارات يمكن أن يُخفي فشل القيادة.
حرب بلا هدف… ولا تعريف نصر
أخطر ما في هذه الحرب ليس طولها، بل غياب معناها. فما هو هدفها السياسي؟
ما هو تعريف “النصر”؟
ومتى تنتهي؟
لا إجابة.
فمنذ ان أطل البرهان بوجهه الشؤم لم يتذوق السودانيون طعم العافية فالقيادة العسكرية الحالية تخوض حربًا بلا أفق، بلا تصور لما بعد القتال، وبلا خريطة طريق لإنقاذ الدولة. تُدار المعركة كما لو كانت شأنًا عسكريًا معزولًا عن السياسة والاقتصاد والمجتمع، بينما الحقيقة أن الحروب التي لا تُربط برؤية سياسية واضحة تتحول إلى استنزاف للدولة لا إلى حماية لها.
الجيش بين واجب الحماية وارتهان القرار
المهمة الأساسية لأي جيش وطني هي حماية المواطنين والدولة، لا الزج بهما في معركة وجودية مفتوحة بلا حساب. غير أن ما نشهده هو العكس تمامًا:
مدن تُدمّر، ملايين يُهجّرون، بنية الدولة تتهاوى، بينما القيادة تتحدث عن “الصبر” و”التحمّل” وكأن الشعب مشروع تضحية دائم.
الأدهى أن القيادة العسكرية لم تقدّم حتى الآن مراجعة صادقة لمسؤوليتها عن تمكين المليشيات سابقًا، ولا عن اختراق المؤسسة العسكرية، ولا عن الفشل الاستخباراتي والسياسي الذي أوصل البلاد إلى هذا الانفجار. الهروب من الاعتراف بالفشل هو السمة الأبرز لهذه المرحلة.
لا مساءلة… ولا محاسبة
في الدول المحترمة، يُسأل القادة العسكريون: لماذا اندلعت الحرب؟ لماذا فشل الردع؟ لماذا لم تُحمَ المدن؟
أما في السودان، فالقيادة تطالب بالحصانة الأخلاقية، وتختبئ خلف قدسية الجيش لتمرير أخطاء جسيمة.
إن الخلط المتعمد بين نقد القيادة العسكرية ومعاداة الجيش هو أسوأ أشكال الابتزاز الوطني. فالدفاع عن الجيش لا يعني الصمت على فشل قادته، بل يعني إنقاذ المؤسسة من الانتحار البطيء.
الاستمرار في الحرب… قرار سياسي فاشل
الإصرار على مواصلة هذه الحرب بالشكل الحالي ليس بطولة، بل قرار سياسي فاشل. فالحرب لم تعد تُخاض لحماية الدولة، بل باتت تُدار للحفاظ على موازين قوة داخلية، وعلى مواقع نفوذ، ولو كان الثمن هو تفكك السودان ذاته.
القيادة التي لا ترى أن استمرار الحرب يدمّر ما تزعم الدفاع عنه، هي قيادة منفصلة عن الواقع، أو أسيرة حسابات لا علاقة لها بالوطن
نعم
فإن قادة الجيش الذين يختبئون من مواجهة الحقيقة هم نعامات هذه الحرب العبثية.
لا شجاعة في إنكار الفشل، ولا وطنية في إطالة المعاناة، ولا شرف في إدارة حرب بلا هدف.
إن إنقاذ السودان لا يبدأ من ساحات القتال، بل من شجاعة الاعتراف، ووقف النزيف، وإعادة الجيش إلى دوره الطبيعي:
مؤسسة وطنية محترفة، لا قيادة سياسية فاشلة بالسلاح.
التاريخ لا يرحم قادة الغفلة الذين صنعهم المخلوع ونظامه المجرم هم الذين أضاعوا أوطانهم وهم يظنون أن الصمت والصبر سيغطيان الخراب.

