قراءة وتعليق في حيثيات وصية محكوم بالإعدام تكشف جوانب خفية من عمق أزمات السودان.
حكاية إعدام جوزيف لمعده د ضيو مطوك (٧) .
بقلم الصادق علي حسن.
في الواقع الفساد والإفساد العام الذي طال السودان في عهد نظام حزب الحركة الإسلامية المؤتمر الوطني، ليصبح الفساد سمة من سمات الممارسة العامة ليس بالنسبة للحزب الحاكم وأنصاره فقط بل ليسود الفساد والإفساد كل مناحي الحياة ومرافق الدولة الرسمية والممارسة السياسية والحزبية . وقد بدأ الفساد المقنن بما أسماه الحزب المتسلط على البلاد وحركته السياسية المتدثرة بغطاء شعارات الدين الإسلامي بالصالح العام، ذلك السلاح الذي أشهره في وجه كافة العاملين بالخدمة العامة المدنية والعسكرية وبه تم إنهاء أكثر مؤسسات الخدمة المدنية والأجهزة الإدارية كفاءة في أفريقيا وافقد الجيش قدراته القتالية وانضباطه فاصبح مصنع تفريغ المليشيات والحركات المسلحة ، كما وصار السودان يتحكم فيه الحزب الواحد بنهجه وممارساته ومؤسساته ،وقد تراكمات فيه ممارسات الفساد المقننة لتنتج أجيالا جديدة مشوهة تربت على ثقافة المصلحة الذاتية واستخدام كافة الوسائل من أجل تحقيق مآربها الشخصية والتنظيمية، والاستيلاء على الوظيفة العامة كحق، واحتكارها والنهب المنظم للمال العام برفع الشعارات الكذوبة وتوظيف أجهزة العدالة والقانون كما جاء في رواية إعدام جوزيف لمعده د. ضيو مطوك واستغلال النفوذ السياسي والعلاقات والإعتبارات التنظيمية والشخصية في كل مؤسسات ومرافق الدولة، وقد صار ذلك هو النهج العام المرعي في الدولة . وقائع حكاية إعدام جوزيف الذي تمت إعادة محاكمته بموجب أحكام المادة ١٣٠ من القانون الجنائي ١٩٩١م القتل العمد بعد ان صار الحكم الصادر بموجب أحكام المادة ٢٥١ من قانون العقوبات ١٩٨٣م الذي كان ساري المفعول وقت إرتكاب الجريمة حكما باتا لإستدعاء وقائع محاكمة (م ي) واصطناع رئيس المحكمة الدستورية للوثائق القانونية لاعتبارات العلاقات الشخصية ،وقائع تكشف عدم سلامة ممارسة من يتولون اهم أجهزة الدولة المنوطة بها تطبيق أحكام القانون في ظل نظام حركة الإسلام السياسي نزولا لتقديراتهم الشخصية .
(م ي) شابا في منتصف العشرينات من العمر متحدر من مدينة الجنينة يقم مع والدته وشقيقته الصغرى في منطقة ام بدة ١٩ (ابو ريال) وكان والده قد تزوج من إمرأة آخرى من مدينة القضارف وسكن بها ،وصارت الأم بأمدرمان تقوم باعباء ابنيها منه. أجتهدت الأم كثيرا في توفير سبل الحياة الكريمة لابنها وبنتها وكانت تقول بأن ابنها كل حياتها في الدنيا شأنها شأن الأمهات في المجتمع التقليدي الذي فيه تتزوج الابنة وتذهب مع زوجها وتبقى الأم مع ابنها . الابنة دخلت في علاقة عاطفية مع احد الشباب المتحدر من جنوب كردفان وكان الابن الشاب والذي اصبح لاحقا (الجاني) في جريمة قتل ارتكبها بحق الشاب (المجني عليه) قد حذره مرارا وتكرارا من مقابلة شقيقته أو الوقوف معها في الشوارع ، وفي مساء يوم وقوع الجريمة وبعد غروب شمس ذلك اليوم وجد الابن (الجاني) شقيقته مع المجني عليه بزقاق بالقرب من دكان بالحي وتشاجرا وانتهت المشاجرة بتسديد الجاني طعنة نجلاء بسكينة على المجني عليه أردته قتيلا .
لا أود أن اتناول قضيتي الإتهام والدفاع والإجراءات المتخذة أمام محكمة الموضوع والإستئناف والمحكمة العليا. لقد تولى الدفاع الأستاذ محمد عبد الله الدومة كما وعلاقتي بمتابعة القضية المذكورة كانت في مرحلة الطعن لدى المحكمة الدستورية. فموجب قانون المحكمة الدستورية الجديد صارت للمحكمة الدستورية ولاية النظر في القضايا الجنائية الباتة ،والتي تتعارض مع تنفيذ أحكامها ، سواء أن صدرت قبل قضاءها بعدم الدستورية أو صدرت بعد هذا القضاء ، وتنظر وتبحث بحسب دستور ١٩٩٨ م وقانون المحكمة الدستورية لسنة ١٩٩٨م ثم دستور ٢٠٠٥م وقانون المحكمة الدستورية لسنة ٢٠٠٥م فيما نص عليه بمدى مطابقة الأحكام للقانون وتقويم ما يشوبها من اعوجاج، و بحث ما يعيق تنفيذ أحكامها والإخلال بمعايير المحاكمة العادلة فيما يتعلق بنظر الأحكام القضائية الباتة الصادرة من المحاكم ، وفيما سبق إنشاء المحكمة الدستورية بقانون كانت كل الدعاوى الدستورية تشكل لها دائرة من قضاة المحكمة العليا للنظر فيها ،وفي تنازع الإختصاص وتفسير القوانين .
رئيس المحكمة الدستورية واصطناع الوثائق القانونية .
تعتبر من الوثائق القانونية العرائض والمذكرات التي يقوم المحامون بإعدادها في مكاتبهم مثل العرائض والمذكرات التي يقومون بإيداعها للمحاكم والتي تتضمن الأدلة التي يعرضونها مشفوعة بطلباتهم . وليس من حق أي محكمة السماح باصطناع اي وثيقة قانونية بإسم محامي أو نيابة عنه، كما الواجب على المحاكم والقضاة الذين يجلسون على منصتها الإلتزام بالاستقلالية التامة والنظر في الطلبات المقدمة أمامه وفقا للقانون، ولكن في إجراءات تنفيذ حكم الإعدام الصادر على الجاني المدان بجريمة القتل(م ي) أشرف رئيس المحكمة الدستورية مولانا جلال علي لطفي بنفسه على اصطناع وثائق قانونية تتمثل في عريضة دعوى دستورية وطلب وقف تنفيذ واسس عليهما إصدار أمر بقف تنفيذ حكم ،ثم ارسلت المحكمة أمر الوقف بصورة عاجلة إلى سجن كوبر ،ثم من بعد ذلك تم استعجال محامي الدفاع ليقوم بإيداع مذكرة الطعن وطلب الوقف وسداد الرسوم.
الوقائع :
فشلت كل مساعي الصلح الأهلي لقبول الدية بين أهالي المجني عليه (القتيل) وأهالي الجاني(القاتل م ي ) وقد صار الحكم باتا ولم يتبق سوى مرحلة التنفيذ أوفرصة الطعن الآخيرة لدى المحكمة الدستورية . اللائحة التي تنظم أعمال المحكمة الدستورية مقروءة مع قانونها حددت فترة لترافع المحامين أمامها بمدة (عشرون سنة) ولم يكن ذلك القيد معمولا به في السابق حيث كان المحامي بمجرد حصوله على رخصة مزاولة مهنة المحاماة وقضاء فترة التدريب بمكتب محامي قضى بالمهنة الفترة المقررة (سنة واحدة)، وحصوله على ترخيص مزاولة مهنة المحاماة، يكون له حق الظهور أمام كافة المحاكم بمختلف انواعها ودرجاتها. أستاذ الدومة الذي كان يتولى الدفاع عن (م ي) بدأ العمل بالقضاء ثم استقال وعمل إداريا ثم انتخب نائبا برلمانيا في الديمقراطية الثالثة فوزيرا ، إما انا فقد كانت فترة عملي بمهنة المحاماة سنوات قلائل . استعان مكتبنا بزميل محامي من المحامين الذين قضوا الفترة المنصوص عليها للظهور أمام المحكمة الدستورية لكتابة الطعن في بترويسته (ورق المحامي الرسمي) ، المحامي المذكور كان مستوفيا للمدة المنصوص عليها وهو من كبار المحامين ،وكان عضوا قياديا في نقابة المحامين في آخر نقابة للمحامين منتخبة حتى قيام إنقلاب الإنقاذ في ٣٠ يونيو ١٩٨٩م، وقد تم اعتقاله مع قادة القوى النقابية والحزبية وقيادة الحكومة التي كانت برئاسة الصادق المهدى. تمت كتابة مذكرة الطعن مصحوبة بطلب وقف تنفيذ الحكم وتم تسليم المحامي المذكور الرسوم وتبعاته من اتعاب. ومضت الأشهر في انتظار قرار المحكمة الدستورية ولكن كانت المفاجأة (يوما ما) بعد ان تم الإتصال بوالدة الجاني المدان بالقتل والمحكوم عليه بالإعدام وذلك للحضور صباحا إلى سجن كوبر حيث سيتم تنفيذ الحكم على ابنها . دخلت والدة الجاني (القاتل) في ظروف صعبة ولم يكن أمامها سوى البحث عن المحامي لفعل ما يمكن عمله لإنقاذ أبنها من حبل المشنقة ،ولم تنم تلك الليلة وأتت إلى المكتب عقب صلاة الصبح وظلت في الإنتظار امامه وعيناها تذرفان الدموع ،وكنت قد وصلت المكتب مبكرا ووجدتها في حالة لا يمكن وصفها، لم يبدأ زمن العمل الرسمي . والدة القاتل لها صلة قرابة بالقاضي علي يحيي عضو المحكمة الدستورية وأمين عام المحكمة. سارعنا بالذهاب إلى المحكمة والحمد لم نجده في مكتبه ،ووجدنا رئيس المحكمة الدستورية مولانا جلال علي لطفي حضر إلى مكتبه مبكرا . لم تكن لي به معرفة ، كذلك التعامل مع القضاة تتم بإجراءات منصوص عليها في القانون ، ولا يصح ان يقوم المحامي أويذهب إلى المحكمة ليطلب وقف تنفيذ حكم من دون طلب مكتوب وفي دعوى غير مقيده أمام المحكمة، ولا يحق للمحامي الظهور أمام المحكمة بسبب قيد المدة ، كما لم يقم المحامي المكلف بقيد مذكرة الطعن لدى المحكمة ، وبالتالي لم يكن أمامي من وسيلة آخرى سوى التصرف السريع وقلت لوالدة المحكوم ضده ادخلي لمولانا جلال علي لطفي وقولي له عن كل ما حدث وانكِ قمت بتكليف محامي للطعن الدستوري ودفعتي له الرسوم والآتعاب والموظف قال ما في عريضة مقيدة لدى المحكمة والآن ابنكِ الولد الوحيد سيتم إعدامه وسبب القتل . كنت قد اعتقدت ان رئيس المحكمة يمكن أن يراعي تقصير محامي الدفاع ،مما قد سيؤدي إلى تعجيل تنفيذ حكم إعدام المحكوم عليه بالإعدام واهدار حقه في الطعن برعونة محاميه ،كما وقد يؤدي الطعن إلى إلغاء أو تعديل الحكم . لقد كانت النتيجة سريعة ومفاجئة وفاقت التصور وانا اراقب المشهد من على البعد . استدعى رئيس المحكمة الدستورية مراقب المحكمة على الفور ثم كانت الإجراءات غير المتوقعة بعد أن تيقن رئيس المحكمة الدستورية من صلة والدة المدان بزميله الأقرب إليه بالمحكمة وأمين عام المحكمة مولانا علي يحيي . تم إعطاء رقم لعريضة لم تقيد بعد وبأثر رجعي مراعاة للقيد الزمني وتم إصدار أمر وقف التنفيذ بصورة عاجلة وإرساله إلى سجن كوبر والاتصال تلفونيا بالسجن والمتابعة المباشرة على أمل اللحاق بالوقف قبل التنفيذ ،وشاءت إرادة الله الغالبة أن تكون هنالك عدة تنفيذات لأحكام بالإعدام وكان المحكوم ضده في إنتظار دوره وفي الوقت الذي اقتيد فيه إلى حبل المشنقة وصل قرار وقف تنفيذ الحكم وتم إيقاف التنفيذ، ولاحقا نظرت المحكمة الدستورية الطعن وقررت استبدال الحكم إلى الدية وخمس سنوات سجن من تاريخ صدور الحكم، وكان المحكوم ضده قد قضاها وقتذاك بالفعل وتم الإفراج عنه .
المخالفات الإجرائية :
كان يمكن للمحكمة الدستورية ان تقوم بذات الإجراءات وبذات التاريخ وأن لا تقوم باصطناع عريضة دعوى دستورية غير مقيدة أمامها وتسبيب اجتهاد رئيس المحكمة الدستورية بما يتماشى وروح القانون وتحقيق العدالة لترسي سابقة قضائية تكشف عن مدى مسؤولية المحامي في تسبيب قتل موكله لقصوره في أداء عمله ومخالفة قواعد وأخلاقيات مهنة المحاماة وهو من كبار المحامين ، كما وكان يمكن للمحكمة ان تأمر بإحالة المحامي المعني إلى لجنة شكاوي المحامين للتأديب من دون المساس بأي مسؤولية آخرى قد تنجم عن التقصير ، ولكان ما كان في ذهن رئيس المحكمة وقتذاك اعتبارات العلاقات وزمالة المهنة التي تجمعه بزميله الذي كان مكتبه قابعا إلى جواره بالمحكمة ومن كان ليتدخل لولا ذلك السبب .
في إعدام جوزيف قام قريب القتيل محي الدين أحمد شريف وقد صار ضابطا بشرطة السجون باستغلال النفوذ السياسي والوظيفة العامة التي يشغلها بشرطة السجون ومن موقع عمله في سجن كوبر قام باصطناع بينة وغرر بالمدان جوزيف لتتم إعادة محاكمته بالمادة ١٣٠ ق ج ١٩٩١م بدلا عن المادة ٢٥١ من قانون العقوبات ١٩٨٣م، ذلك القانون المعمول به وقد ارتكاب الجريمة. وهنا يثور الثوار حول مدى سلامة إعادة المحكمة وظروفها ولم تتوافر لنا معلومات كافية من خلال الوقائع المروية بالكتاب . ولكن في ظل نظام حركة الإسلام السياسي كل الاحتمالات واردة . لم يتحسب د الترابي بالرغم من دهائه ومكره ومعرفته التامة بالدستور لما صنعه بيده وأعتقد أن نص المادة ١٤٠/ ٢ من الدستور لسنة ١٩٩٨م الذي أشرف عل صياغته وسنه وقد حدد أجل مجلسه الوطني بأربع سنوات من إنعقاد جلسته الأولى وأتي بمولانا جلال على لطفي وزملائه من قضاة المحكمة الدستورية لدراسة دستوره وشغل الرأي العام السوداني بما اسماه بالتوالي السياسي وكلمة التوالي ماذا تعني والجدل بشأنها في معناها (التتابع ام حدوة الحصان ام ذيله) وحينما امتلك البشير الجراءة بإصدار قرار حل المجلس الوطني كان قضاة المحكمة الدستورية برئاسة جلال علي لطفي يفصلون القرار الذي يناسب من يتحكم على السلطة كدابهم. طوال فترة رئيس المحكمة الدستورية مولانا جلال علي لطفي كانت المحكمة أداة من أدوات تقنين اهدار الحقوق وليس حمايتها والقرارات الدستورية تمت تقنين مصادرة الصحف وتكميم الأفواه وشرعنة تجاوزت وانتهاكات جهاز الأمن .
في مقالنا القادم سنعود إلى المشهد السابع من حكاية إعدام جوزيف بصفحة ٣٩ (حاكم كردفان يُسلٌم إشارة مقتضبة ومصنفة “سرية للغاية” ” سيصلكم وفد رفيع المستوى ، يجب تحضير الحراسة له لحمايته أثناء أثناء المأمورية”) ، وحول مأمورية أسامة بن لادن السرية إلى كردفان ، تلك المأمورية التي كادت ان تؤدي بحياة الجندي سانتوس بمثل ما حدث في حالة قتل الفنان خوجلي عثمان .