لم أتنازل عن جوازي وجنسيتي السودانية، وإنما تم نزعهما مني انتزاعًا كإنتزاع الروح من ثنايا الجسد
لم أتنازل عن جوازي
🟦 إستخدام حقك الدستوري في الأوراق الثبوتية ضد المعارضين من قبل الأنظمة الفاشية عند الإختلاف من قبل عقلية عدم الأخلاق الامنجية واعينهم الشريرة و نظمهم الاستبدادية والتي ترتد عليهم وتورثهم الخبال ونبريج الوعي ليس جديداً خمر قديم في أواني جديدة ماذا نسّوي انا وانت فقد سبقكم، ذلك العملاق الاشم “الفيتوري” يا للهول !! حتى الحول – كلما وصفتهم بما يعني عدم الأخلاق هؤلاء البلابسة ومراديفهم لن توافيهم جبهم العميق
■ في عام 2005م اختيرت الخرطوم عاصمة للثقافة العربية، بحثت الحكومة السودانية عن أديب سوداني كبير يستقبل زوار البلد من الأدباء والشعراء والمسؤولين، وقد استبعدوا بطبيعة الحال الطيب صالح، كأديب عالمي لموقفه منهم ولمقاله عنهم (من أين أتي هؤلاء؟) .
وبدأوا في البحث في دفاترهم القديمة المنسية، فنكتوا الشاعر الكبير الأفروسوداني محمد مفتاح الفيتوري، من بين أضابير التاريخ المنسية، وأرسلوا له دعوة في لندن ليأتي ويستقبل ضيوف البلاد، ولبى الفيتوري الدعوة مشكورًا، فهو ابن السودان البار وابن دارفور الثائر، المولود فى الجنينة العام 1930م
وصاحب الكلمات الثورية الرائعة التي صدح بها الفنان العملاق وردي أيام ثورة أكتوبر 1964م: أصبح الصبح..فلا السجن ولا السجان باق!.
.
وكان أن استقبل مرحبًا به في تلفزيون السودان أثناء نقل فعاليات (الخرطوم عاصمة الثقافة العربية) من أرض المعارض بالخرطوم، وسأله المذيع سؤال مفاجئ لم يتوقعه ولم يسبق له سماعه:
🔻 – لماذا تخليت عن جوازك السوداني ونلت الجواز الليبي؟
.
🔴 سكت الفيتوري للحظات كأنما يستجمع شتات نفسه المبعثرة على خارطة الوطن العربي، وتلألات دمعتان حائرتان في مقلتيه، وقال:
.
–
🔺 في الحقيقة لم أتنازل عن جوازي وجنسيتي السودانية، وإنما تم نزعهما مني انتزاعًا كإنتزاع الروح من ثنايا الجسد، وهو حديث ذو شجون لم يسبق لي ارتياده لأنه يسبب ألمًا شديدًا لروحي وكل جينات جسدي، وأنا مضطر للإجابة على سؤالك!
.
■ كنت سفيرًا للسودان في لبنان، وجئت في زيارة عمل روتينية للسودان في أعقاب انقلاب الشيوعيين العام 1971م، وعلمت من أحد الأصدقاء أن الأستاذ محمد إبراهيم نقد، مطلوب القبض عليه من قبل حكومة نميري وهو مريض ويعالج في الخفاء في بيت أحد أقاربه في أم درمان
ودلني الصديق الوفي إلى ذلك البيت وأديت واجب الزيارة للصديق المريض وسافرت إلى لبنان مكان عملي، ولم أكن أدري أن حكام العسكر يضعون جواسيس ورجال أمن على موظفيهم حتى الكبار منهم كالوزراء والدبلوماسيين، وحكام الأقاليم…الخ، والمفترض فيهم أنهم محل ثقة كبيرة، وكان أن ذهب هؤلاء الجواسيس إلى نميري قائلين له بالحرف الواحد:
سفيرك راح زار عدوك!
.
فأرسل نميرى عناصر مخابراتية إلى لبنان وفتحوا السفارة ليلاً وكذلك مكتبي وأخذوا جواز سفري وسافروا به لتسليمه لنميري، وفي اليوم التاني صدر بيان وزارة الخارجية السودانية بعزلي كسفير في وزارة الخارجية، ونزع جوازي وجنسيتي السودانية! فأصبحت بين ليلة وضحاها، بلا عمل، وبلا هوية، وبلا وطن!
.
وصل الخبر إلى وزارة الخارجية اللبنانية، فأرسلوا لي مبعوثًا من كبار موظفيهم يبلغنى برسالة من الحكومة اللبنانية بأنهم لن يستطيعوا التعامل معي رسميًا كسفير، ولكن لمكانتي كشاعر عربي كبير، ودبلوماسي له خدمة طويلة في المجال، تعرض علي الحكومة اللبنانية منزلاً للإقامة الدائمة وراتبًا معقولاً ومنحًا دراسية لأبنائي مجانًا! وفي الحقيقة عزت على نفسي أن أبدو متسولاً ومستدرًا لعطف وإحسان بعض إخوتي رغم شعوري بالإمتنان الشديد لهم على هذا الكرم الحاتمي، وكانت رغبتي أن أستمر في عمل ما لأصرف على أولادي من عرقي وكدي وليس من إحسان البعض علي وعلى أولادي مع شكري الباذخ لهم!
.
كانت لي صداقة مع العقيد القذافي، اتصلت به وأبلغته بما حدث، قال لى بلا تردد جهز أغراضك وأولادك، في خلال ساعات ستصل طائرة ليبية إلى مطار بيروت لتحملك وأولادك الى ليبيا، وفعلاً بعد عدة ساعات وفي وقت متأخر من الليل وصلت الطائرة واتصل بي أحد المسؤولين في الطائرة بأنهم قد حضروا لتنفيذ أمر العقيد لنقلي وأولادي إلى ليبيا!
.
بين ليلة وضحاها وبشئ لم يخطر على البال، وجدت نفسي وأولادي مسافرًا إلى المجهول، لا أعرف ماذا سأعمل وكيف سأعيش؟
.
وصلنا إلى طرابلس وجدنا سيارة رئاسية في إنتظارنا، وبعض المسؤولين في الحكومة، أحدهم بمرتبة عالية ويبدو كضابط فى الجيش أو مسؤول كبير، كما فهمت من إحترام الآخرين له، وتم نقلنا إلى فيلا فخمة في حي من أحياء طرابلس الراقية، وشكرت المسؤول الكبير وطلبت منه نقل تحياتي لسيادة العقيد حتى أستطيع مقابلته غدًا إذا اعطيتموني موعدًا للزيارة، ولكن المسؤول الكبير إعتذر لي قائلاً: لابد إنك سيدى قلق من جراء الموقف الذى حدث لك، ومرهق من تعب السفر ولكن الأوامر لدي أن آخذك الآن إلى سيادة العقيد وهو في انتظارك، تعجبت من ذلك لأن الفجر تبقت له سويعات قليلة، ولكني امتثلت لأوامر العقيد وسرت معه إلى حيث وجدناه في خيمته المعهودة التى يحب الجلوس فيها في فناء مقر الرئاسة، وكان معه السيد عبدالسلام جلود أمين، وزير الخاجية، ولاحظت أن جواز سفر أحمر كان بينهما على الطاولة، وبجانبه خطاب مغلق.
.
استقبلاني مرحبين مع تساؤلات عن تلك الأحداث الغريبة التى وقعت لي مع الرئيس نميري، وأخيرًا تناول العقيد جواز السفر والخطاب وناولني إياهما قائلاً: هذا جواز سفرك الليبي الجديد وقرار تعيينك سفيرًا فوق العادة ووزيرًا مفوضًا للجماهيرية العربية الإشتراكية العظمى، وبقى أن تختار مكان عملك، وتحدث معي عبدالسلام جلود، عن الدول الخالية من منصب السفير واخترت بريطانيا!
.
ولأول مرة في تاريخ الدبلوماسية العالمية يكون هنالك سفير لدولة في دولة ما، ليتحول فجأة إلى سفير لدولة أخرى في بلد آخر!
.
وسافرت إلى لندن مع أسرتي ومكثت لسنوات إلى أن أرسل لي الوزير عبدالسلام جلود، خطاب التقاعد بعد أن وصلت إلى عمر التقاعد. وعدت إلى ليبيا وسكنت الفيلا الممنوحة لي من الحكومة. وجهزت خطاب شكر للعقيد ووضعت جواز السفر الدبلوماسي مع الخطاب في مظروف، وأوشكت على الإتصال بالرئاسة لتحديد موعد لزيارة العقيد، ولكني فوجئت بزيارة مسؤول كبير أتى لإصطحابي إلى زيارة العقيد!
.
ووجدته كما عهدته في المرة الأولى جالسًا في خيمته التي يفضل الجلوس فيها كعربي قح، وبتواضع شديد لم أعهده في رؤساء الدول التى زرتها، استقبلنى مرحبًا ومبتسمًا كعادته، ثم إلتفت إلى جلود قائلاً له: يا عبدالسلام، الشعراء لا يحالون إلى التقاعد، وناولنى مظروفًا: هذا قرار تعيينك سفيرًا ووزيرًا مفوضًا مدى الحياة..!!
.
(محمد عطا مدنى)