السبت, يوليو 5, 2025
الرئيسيةاخبار سياسيةمئة عام من الزراعة والصمود: الجزيرة والمناقل: حكاية وطن نبت من التراب...

مئة عام من الزراعة والصمود: الجزيرة والمناقل: حكاية وطن نبت من التراب وصنع التنمية(1)

مئة عام من الزراعة والصمود: الجزيرة والمناقل: حكاية وطن نبت من التراب وصنع التنمية(1)

تقرير:حسين سعد
في قلب السودان، وعلى إمتداد آلاف الأفدنة من الأرض الخصبة الممتدة بين النيلين الأزرق والأبيض، وُلد شيخ المشاريع الزراعية مشروع الجزيرة والمناقل قبل مئة عام، ليس كمجرد مشروع زراعي، بل كحلم وطني واقتصادي وإنساني غيّر ملامح الريف السوداني، وأعاد تشكيل العلاقة بين الأرض والإنسان والدولة، تأسس هذا المشروع العملاق في عشرينيات القرن الماضي، في ظل تحولات اقتصادية كبرى كانت تشهدها المنطقة، ليصبح واحداً من أكبر المشاريع الزراعية المروية في أفريقيا والعالم، ومن ثم ركيزة أساسية للاقتصاد السوداني لعقود طويلة، ومصدر فخر واعتزاز لأجيال من المزارعين والعمال والمهندسين والإداريين الذين ساهموا في بنائه وتطويره، لم يكن تأسيس مشروع الجزيرة والمناقل مجرد إستثمار زراعي، بل كان بداية لنهضة اقتصادية ومجتمعية غير مسبوقة في تاريخ السودان الحديث، فقد وفّر المشروع فرص عمل واسعة ومصدر رزق لإنسان الولاية وعمالة وافدة من الولايات الأخري ، وأسهم في تحسين البنى التحتية، من سكك حديدية وقنوات ري ومدارس ومراكز صحية، وخلق مجتمعات مستقرة قائمة على الإنتاج والتعاون. كما كان المشروع بمثابة محرّك لنهوض الطبقة الوسطى الزراعية، التي لعبت دوراً محورياً في الحركة الوطنية، والنقابية، والتحول الاجتماعي والثقافي في السودان.


نهضة السودان تبدأ من هنا:
ومع حلول الذكرى المئوية لتأسيس هذا المشروع التاريخي، تقف البلاد أمام محطة تأمل ومراجعة، ليس فقط للاحتفال بإرث الماضي، بل لتقييم الحاضر ورسم ملامح المستقبل، فالمشروع الذي بدأ برؤية طموحة لإنتاج القطن وتغذية صناعات النسيج البريطانية، تحوّل على مر السنين إلى حاضنة للخبرات المحلية، وساحة للتجارب التنموية، وشاهد حي على تعاقب السياسات الاقتصادية وتحديات الإدارة وسوء التخطيط ، إن الاحتفال بمئوية مشروع الجزيرة والمناقل ليس فقط مناسبة لتكريم الذين غرسوا وسقوا وفلحوا الأرض، وإنما هو دعوة صادقة لتجديد الالتزام الوطني نحو إعادة تأهيل المشروع، وضمان إستدامته في ظل المتغيرات البيئية والاقتصادية والسياسية التي تعصف بالبلاد، ففي هذه اللحظة التاريخية، يصبح من واجب الجميع – من الدولة والمجتمع والقطاع الخاص – إعادة الاعتبار لهذا المشروع الذي كان وما زال قادراً على أن يكون قلب السودان النابض، وركيزة للأمن الغذائي، ومنارة للتنمية الريفية العادلة، مئة عام مرّت، لكن جذور المشروع لا تزال ضاربة في عمق الأرض، كما في وجدان السودانيين. وبين ما زرعه الأجداد، وما يحلم به الأبناء، يبقى مشروع الجزيرة والمناقل أكثر من مجرد مشروع زراعي؛ إنه رمز لصمود الإنسان السوداني وقدرته على تحويل الطين والماء إلى حضارة ونماء، ومع مرور مئة عام على هذا المشروع التاريخي، تتزاحم الذكريات مع التحديات، ويعلو الصوت الممزوج بالألم والأمل ، مابين سنوات المجد التي كان فيها المشروع يرفد خزينة الدولة بالعملة الصعبة ، ويغذي العالم بقطن السودان ذي الجودة العالية ، وسنوات التدهور والخراب التي ألقت بظلالها علي البينة التحتية والإنتاج ، تتكشف قصبة كبري تختزل مسيرة وطن بأكمله بنجاحاته وإخفاقاته.
على خطى الأجداد:
ومن المنتظر ان تنطلق في الشهر الحالي إحتفالية مرور مئة عام علي تأسيس مشروع الجزيرة والمناقل التي ينظمها موقع الإقتصادي السوداني بالتضامن مع المركز السوداني الامريكي للبحوث والدراسات الإقتصادية تحت شعار (مشروع الجزيرة ..الحصيلة والوجهة بعد مئة عام من المسير) وحددت اللجنة المنظمة أيام 18 -19-25-25 يوليو الجاري للفعالية التي يخاطبها عبد الله حمدوك وممثلي ملاك الأراضي، ويقدم في الإحتفالية لفيف من الخبراء والباحثيين العديد من أوراق العمل مثل التقنية الزراعية وإمكانية إستخدامها في المشروع للدكتور عبد الله الخضر وورقة عن مساهمة الفنون في التعايش الثقافي والإجتماعي بعد نهاية الحرب للإستاذ عفيف إسماعيل ، وورقة دور برامج رفع الأنتاجية للمحاصيل والإرشاد الزراعي في تطوير المشروع للدكتور بابكر حمد ، وورقة إدارة الري بالمشروع الماضي والحاضر والمستقبل والحلول للدكتور سيف الدين حمد ، وورقة المسئولية المجتمعية في الزراعية مشروع الجزيرة نموزجاً للدكتورة بخيتة محمد عثمان ، وورقة كيف نقل مشروع الجزيرة سكانه من مجتمع الطرق والطوائف والأعراق إلى مجتمع مدني للدكتور عبد السلام نورالدين ، وورقة الحركة التعاونية للأستاذ محمد عبد الوهاب العتيبي ، وورقة إدخال الحيوان في الدورة الزراعية للدكتور التاج محجوب ، وورقة ملكية الأرض وكيفية حمايتها للدكتور سلمان محمد أحمد سلمان ، وورقة تحديات التمويل وإعادة الإعمار في السودان للأستاذ عمر سيد أحمد وورقة التمويل ودوره في نهوض المشروع للدكتور حامد الأمين ، وفي اليوم الأخير للإحتفالية يقدم جعفر محمدين ورقة العمال الزراعيين سكان الكنابي وقضاياهم بينما يقدم الصحفي حسين سعد ورقة الاعلام في مشروع الجزيرة بين التوعية والتقصير ، ويقدم الاستاذ تاج السرالملك ورقة أثر المشروع في التطور الثقافي والإبداعي بالجزيرة ، ويقدم دكتور محمد القاضي ورقة المبيدات الكيماوية بالمشروع مشاكل وحلول ممكنة ، ويقدم الدكتور صديق عبد الهادي ورقة قضايا الإصلاح المؤسسي للمشروع.
هل تستعيد الأرض صوتها:
لقد كان مشروع الجزيرة والمناقل مرآة حقيقية لسياسات الدولة تجاه الزراعة والتنمية الريفية، ففي سنوات إزدهاره، كان رمزاً للتخطيط الرشيد والشراكة الذكية بين الحكومة والمزارعين، وفي سنوات ضعفه، كشف عمق الأزمات الإدارية وغياب الرؤية الاستراتيجية، ولذا، فإن الحديث عن مئوية المشروع لا يكتمل دون الوقوف عند دروس الماضي التي يجب أن تُستخلص، والتحديات البنيوية التي لا تزال قائمة، مثل غياب التمويل الكافي، وتراجع دور المؤسسات البحثية، وتدهور قنوات الري، وغياب العدالة في إدارة العائدات الزراعية، لكن رغم كل العثرات، فإن روح المشروع لا تزال حية، فما زالت الأرض خصبة، وما زال المزارع السوداني يحمل ذات العزيمة التي جعلت من المشروع أيقونة وطنية، ومع تنامي الدعوات اليوم لإعادة تأهيل المشروع على أسس علمية واقتصادية عادلة، تبرز الحاجة الماسّة إلى مشروع وطني نهضوي يعيد للجزيرة والمناقل مكانتهما، لا كمجرد مورد اقتصادي، بل كمختبر حي لتجربة تنموية متكاملة تُراعي البعد الإنساني، وتحقق العدالة الاجتماعية، وتستثمر في رأس المال البشري والبيئي، إن الاحتفال بمئوية المشروع، إذن، ليس مجرد حفل رمزي أو مناسبة خطابية، بل هو فرصة استراتيجية لصياغة عقد جديد بين الدولة والمجتمع الزراعي، عقد يقوم على التمكين لا التهميش، وعلى الشراكة لا الاستغلال، وعلى الرؤية المستنيرة لا السياسات المتقطعة، لقد آن الأوان لتُرفع رايات الإصلاح الزراعي الحقيقي، ولتعود الجزيرة والمناقل إلى دورها الطليعي، لا فقط في الإنتاج، بل في قيادة التحولات الكبرى نحو العدالة والتنمية والسلام الاجتماعي. فهذه المئوية يجب أن تُسجّل في ذاكرة الوطن، لا فقط كتاريخ مضى، بل كميلاد جديد لمشروع عظيم… صنعه الإنسان السوداني، ويستحق أن يكون رافعة نهضة السودان القادم.
الخاتمة:
في مئوية مشروع الجزيرة والمناقل، لا نملك ترف الإحتفال الخاوي، ولا رفاهية التغني بالماضي دون تصحيح مسار الحاضر وإستشراف المستقبل، فهذه الأرض التي روتها دموع المزارعين وعرق العمال، لا تستحق أن تذبل تحت وطأة الإهمال وسوء السياسات، إن إعادة الروح لهذا المشروع هو إعادة الروح للسودان نفسه، فلا تنمية حقيقية دون زراعة منتجة، ولا إستقرار دون عدالة في توزيع الموارد، ولا نهضة دون تمكين حقيقي للريف وأهله، إن مئوية المشروع تمثل نداءً وطنياً جامعاً: أن نعيد النظر في أولوياتنا، أن نمنح الزراعة حقها كقاطرة تنمية، وأن نُعيد الاعتبار للمزارع كفاعل اقتصادي لا كمجرد تابع. ولعلّ هذه المناسبة التاريخية تكون شرارة انطلاقة جديدة، نغرس فيها الأمل كما غرس الأجداد القطن، ونسقيها بالعلم والإرادة كما سقوا الأرض بالطمي والنيل، ليكن إحتفالنا بالمئوية هو وعدٌ أمام الأجيال القادمة: أن مشروع الجزيرة والمناقل لن يكون فقط ذاكرة ماضٍ مجيد، بل مشروع مستقبل واعد، يحمل في ترابه بذور العدالة، وفي مياهه نهر الحياة(يتبع)

مقالات ذات صلة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

الأكثر شهرة

احدث التعليقات