في إحدى أمسيات القاهرة الدافئة، كان لي شرف اللقاء بقامة فنية سودانية سامقة، الأستاذ الفنان شرحبيل أحمد، متعه الله بموفور الصحة والعافية. لم يكن اللقاء مجرد زيارة عابرة، بل كان رحلة إنسانية وفنية عميقة إلى عوالم الإبداع السوداني الأصيل، حيث يمتزج الفن بالحكمة، والتجربة بالتواضع، والذاكرة الوطنية بسحر الحكاية.
يُعد الأستاذ شرحبيل أحمد واحدًا من أهم رموز الفن السوداني المعاصر؛ فهو ليس فقط فنانًا غنائيًا صاحب لونية موسيقية متفردة، بل هو أيضًا فنان تشكيلي ورسام مبدع، جمع بين الصورة واللحن، وبين الريشة والصوت، ليؤسس مدرسة فنية خاصة به، تركت أثرًا واضحًا في الوجدان السوداني. لونيته الغنائية المختلفة، التي استلهمت روح الجاز والبلوز وأضافت إليها الإيقاع السوداني، جعلت أغنياته أشبه بحالة شعورية كاملة؛ حين تستمع إليه تشعر بأن «الليل الهادي» ليس زمنًا فقط، بل مساحة للطمأنينة، وملاذًا للروح من صخب العالم.
وخلال الجلسة، وأنت تُصغي إليه، يخيل لك أن صوته الداخلي ما زال يهمس بذات الشجن الذي قال يومًا: لو تعرف الشوق…، ذلك الشوق الذي لم يكن في أغنياته مجرد حنين عاطفي، بل إحساسًا إنسانيًا واسعًا، شوقًا للناس، وللأيام الجميلة، وللوطن كما ينبغي أن يكون.
خلال حديثه، بدت التجربة الفنية الثرية للأستاذ شرحبيل ككتاب مفتوح، زاخر بالقصص المشوقة والمواقف الملهمة. ثقافة عميقة، وذاكرة حية، وقدرة آسرة على السرد، جعلت من الجلسة درسًا في الفن والحياة معًا. تحدث عن محطات مفصلية في مسيرته، وعن رفقاء الدرب، وعن الفن بوصفه رسالة ومسؤولية قبل أن يكون شهرة أو أضواء. كان يتحدث بهدوء يشبه إيقاع أغنياته، ذلك الهدوء الذي لا يخلو من فرح داخلي، كأن البهجة عنده ليست انفعالًا عابرًا، بل فلسفة حياة.
زاد اللقاء دفئًا حفاوة الاستقبال في منزله العامر بمدينتي، الذي يعكس شخصيته البسيطة والراقية في آن واحد. بيتٌ يفيض بالمحبة، وتفاصيله تحكي عن صاحب ذائقة فنية عالية، ووجدان مفتوح على الجمال. هناك، وأنت جالس بقربه، تدرك أن كثيرًا من أغنياته لم تُكتب فقط لتُغنّى، بل لتُعاش؛ وأن «البهجة في عينك» ليست مجرد عنوان أغنية، بل وصف صادق لروحه، ولتلك النظرة التي تستقبل الناس بمحبة صافية.
ولا يكتمل الحديث عن شرحبيل أحمد دون التوقف عند عالمه التشكيلي، حيث لم يكن رسامًا فحسب، بل صانع شخصيات راسخة في الذاكرة. شخصية “عمك تنقو”، التي أحبها أطفال السودان في مجلة الصبيان، لم تكن مجرد رسم طريف، بل كانت درسًا مبكرًا في البساطة، والذكاء الشعبي، والضحكة التي تخفي حكمة. كان عمك تنقو يشبه أغنياته تمامًا: قريبًا من الناس، خفيف الظل، عميقًا دون ادعاء، وكأن شرحبيل كان يقول لنا منذ ذلك الحين إن الفن الحقيقي يبدأ من القلب ويصل إلى الجميع بلا استئذان.
إن الحديث عن الأستاذ شرحبيل أحمد هو حديث عن استحقاق حقيقي للتكريم، لا من باب المجاملة، بل وفاءً لمسيرة فنية حافلة بالعطاء والتجديد والتأثير. فقد قدّم خلال عقود طويلة إسهامًا أصيلًا في تشكيل الوعي الجمالي السوداني، وأسهم في نقل الأغنية السودانية إلى فضاءات عالمية أرحب، محتفظًا بخصوصيتها وصدقها.
كان لقائي بالأستاذ شرحبيل أحمد بمثابة تذكير بأن الفن الحقيقي لا يشيخ، وأن المبدعين الكبار يزدادون جمالًا كلما تقدم بهم العمر، لأنهم يتركون فينا أثرًا لا يزول، ويمنحون الأجيال القادمة بوصلة للجمال والمعنى.
في ختام هذا اللقاء، أدركت أن حبي للأستاذ شرحبيل أحمد ليس حبًا لفنان فحسب،
بل امتنانٌ لإنسانٍ علّمنا، دون أن يقصد،
أن الجمال يمكن أن يكون خفيفًا،
وأن العبقرية لا تحتاج إلى ضجيج،
وأن الفن حين يكون صادقًا،
يشيخ الجسد ولا تشيخ الروح.
أحببت في شرحبيل صوته،
لكنني أحببت أكثر قلبه،
أحببت ألحانه،
لكنني وقفت طويلًا أمام إنسانيته،
ذلك الصفاء النادر الذي لا يُدرّس،
ولا يُكتسب،
بل يُولد مع الكبار.
هو من أولئك الذين إذا التقَيتَهم،
خرجتَ وأنت أكثر حبًا للحياة،
وأكثر إيمانًا بأن السودان،
رغم كل ما مرّ به،
ما زال قادرًا على إنجاب هذا النبل.
له محبتي الخالصة،
ولفنه انحناءة احترام،
ولحضوره في حياتنا دعاءٌ صامت
أن يظل بيننا
ضوءًا…
وصوتًا…
وذاكرة لا تغيب.
ابنك المحب دوماً،
مازن أبو الحسن
القاهرة، جمهورية مصر العربية
30 ديسمبر 2025لق

