الخميس, يوليو 17, 2025
الرئيسيةمقالاتمحمد الأميـن عبد النبـي يكتب: تحركات واشنطن بين الصفقات المعلبة والحلول المستدامة...

محمد الأميـن عبد النبـي يكتب: تحركات واشنطن بين الصفقات المعلبة والحلول المستدامة في السودان

محمد الأميـن عبد النبـي يكتب: تحركات واشنطن بين الصفقات المعلبة والحلول المستدامة في السودان

القراءة الفاحصة للمشهد السوداني بعد قرابة العامين ونيف تشير الي أن المعطيات العسكرية على ارض الواقع في تصاعد وليس انحسار، والي سعي حثيث لطرفي الحرب في تشكيل حكومات في بورتسودان ونيالا وترجيح الخيار العسكري والتمسك بشرعية البندقية، والي تشروم القوى المدنية وإنحياز بعضها لأي من طرفي الحرب فيما يتمسك البعض الاخر بالطريق الثالث والحياد السياسي ورفض مشروعية الحرب والدعوة الي إيقافها، ورغم الاتفاق على الاهداف والوجهة السياسية والتقارب والحوارات الثنائية الا أنها لم تصل بعد الي جبهة مدنية عريضة موحدة لوقف الحرب وتحقيق السلام، ومازال الإستقطاب سيد الموقف، عطفاً على تصاعد الكارثة الانسانية وإنهيار الاقتصاد وتفكك النسيج الاجتماعي وتصاعد خطاب الكراهية.
في خضم هذا الوضع المأزوم الملبد بالغيوم وإنسداد الأفق والذي يؤكد على حالة الجمود التام والعجز الكامل في إنتاج مخارج من مأزق الحرب وعبثيتها، إتجهت الأنظار الي تحركات الولايات المتحدة الاخيرة في الشأن السوداني مع السعودية والامارات ومصر كفرصة ومبادرة جديدة لكسر الجمود وفتح مسار إنهاء الحرب في السودان.
لعله من نافلة القول ان الجهود الوطنية الداخلية قد تعثرت تماماً لغياب الارادة السياسية وتصورات اليوم التالي، وان الجهود الاقليمية والدولية السابقة هي الأخرى لم تحقق تقدم يذكر؛ لغياب الانسجام والتناغم بين الفاعلين الاقليميين والدوليين حول طبيعة الحرب وكيفية التعامل معها والإنقسام بشأن طرفي الحرب، وكان عنوانها الأبرز تعدد المنابر، ولم تصل الي صيغة تنسيقية موحدة رغم الاجتماعات المشتركة لهذا الغرض، وتجلى الصراع الاقليمي والدولي حول السودان في مؤتمر لندن الاخير اذ تعثر الوصول الي بيان ختامي متفق عليه.
تعكس الأزمة السودانية تداخلاً عميقًا بين القضايا الداخلية والأبعاد الإقليمية والدولية، حيث أصبحت ساحة تنافس نفوذ بين القوى الدولية وصراع محاور بين القوى الإقليمية. وفي هذا الإطار يمكن قراءة التحرك الامريكي الأخير الذي يشير الي الإنتقال من مرحلة إدارة الازمة الي البحث عن حلها وفق إستراتيجية جديدة، فقد إعتمدت الولايات المتحدة ذات سياساتها التقليدية في السودان القائمة على الجذرة والعصا بفرض عقوبات على طرفي الحرب، وواصلت إدارة ترمب في ذات التوجه بفرض عقوبات في مايو 2025 على بورتسودان بإستخدام اسلحة كيميائية، ورغم اهمية هذه العقوبات الا انها غير فاعلة لإحداث إختراق حقيقي في المشهد السوداني، كذلك عمدت واشنطن على دعم شركائها وحلفائها في المنطقة في التعامل مع الملف السوداني دون تدخل مباشر مع الفاعليين السودانيين عسكريين أومدنيين؛ بإعتبار أنه لا يمثل أولوية في قائمة الإهتمامات الأمريكية والذي يصنف ضمن الملف الافريقي الذي هو الأخر خارج دائرة إهتمام الخارجية الامريكية، وبدأت أصوات أمريكية تطالب إدارة ترمب بالنظر الي السودان في إطار مسالة البحر الاحمر والشرق الاوسط الجديد وإتفاقيات ابراهام وملف الارهاب، مما جعل أكثر الفاعلين والمهتمين بالملف السوداني دول شرق أوسطية مع تراجع واضح لدور الاتحاد الافريقي والايقاد والدول الافريقية بصورة عامة.
ولكن؛ في الأونة الاخيرة ظهر إهتمام أكبر من واشنطن بالشأن السوداني ولعل ذلك يرجع الي تداعيات الحرب الإسرائيلية الايرانية، وتوجهات ترمب بحثاً عن جائزة نوبل للسلام، وتوسع حرب السودان بصورة تهدد بحرب إقليمية، وإشتداد الصراع على البحر الاحمر وتهديد الممرات البحرية في الخليج، والصراع القرن الافريقي، وزيادة التوتر في الشرق الاوسط، عطفاً على تصاعد الكارثة الانسانية وزيادة استهداف المدنيين وتمدد المجاعة، مما جعل الولايات المتحدة تدرك إرتباط السودان بالصراع في المنطقة وتأثير الحرب على مجمل الاوضاع في منطقة مليئة بالاضطرابات على حدود البحر الأحمر والقرن الإفريقي ومنطقة الساحل، وتعد جاذبة للقوى الدولية بسبب موقعها الاستراتيجي، فالسودان بحكم موقعه الاستراتيجي على البحر الأحمر، تمتد سواحله لما يقرب من 670 كيلو مترًا، وتجاوره سبع دول هي مصر وليبيا شمالاً، وفي الجنوب الشرقي إريتريا وإثيوبيا، ودولة جنوب السودان جنوبًا، وفى الغرب والجنوب الغربي دولتي تشاد وإفريقيا الوسطى. وهو ثالث الدول من حيث المساحة في إفريقيا، ومن العشرين دولة الأكبر مساحة في العالم، ويعد السودان من الدول الغنية بالثروات الزراعية والموارد الطبيعية والنفط والمعادن وبالتاكيد يلعب دوراً حيوياً في إنتاج الطاقة وإستقرار المنطقة.
ظهر هذا الاهتمام بشكل واضح في الثالث من يونيو الماضي بإجتماع نائب وزير الخارجية الامريكي كريستوفر لاندو ومسعد بولس مستشار الرئيس الامريكي للشئون الافريقية مع سفراء السعودية والامارات ومصر، وقد اشار الاجتماع بوضوح الي ان الحرب في السودان تهدد المصالح المشتركة في المنطقة وان عدم إنهاء النزاع بحل عسكري والاشارة الي سعي الرباعية بالضغط على الطرفين بوقف الاعمال العدائية والتفاوض. وجاءت تصريحات وزير الخارجية الامريكي ماركو روبيو في نهاية ذات الشهر عقب التوقيع على إتفاق السلام بين الكنغو الديمقراطية ورواندا بأن الوجهة القادمة وقف الحرب في السودان، وكانت تصريحات مسعد بولس أكثر وضوحاً حيث اكد على ان واشنطن تعمل على الدفع نحو مسار تفاوضي شامل واعلن عن استضافة مؤتمر دولي يهدف الي التوصل لوقف الحرب في السودان. وتوج هذا التوجه بتصريحات الرئيس الامريكي حيث كشف عن مساعي امريكية جادة لانهاء النزاع في السودان عبر حل سياسي.
مما يشير الي ان هناك تحرك خلف الكواليس لصياغة تسوية سياسية على غرار إتفاق رواندا والكنغو الديمقراطية، وما رشح مؤخراً حول مقترح إعطاء دارفور حكماً ذاتياً وخلافات بين القاهرة وواشنطن حول مشاركة الجيش او المدنيين في مؤتمر واشنطن، ما هي الا محاولات للتاثير على توجهات الرباعية في مؤتمرها المرتقب. وهذا لا يخفي جهل إدارة ترمب بتعقيدات الوضع في السودان والتفكير في الحلول المعلبة على غرار تجربة نيفاشا بصيغة دولة بنظامين أو انظمة متعددة كما يطرح فرانسيس دينق وهذا لا تعدو غير شرعنة لمناهج التجزئة والتقسيم والتفتيت أو وضع ألغام موقوتة مؤذية ستفتح الباب واسعاً لإندلاع حروب عرقية وجهوية وفي الشرق والغرب ولن توقف عجلة التقسيم والتشظي، ولا يخفي كذلك توجه دول المنطقة في الرباعية في موقفها المعادي للاسلاميين وللقوى المدنية والتماهي مع القوى العسكرية مما يرجح البحث عن صفقة بين طرفي الحرب لتقاسم الثروة والسلطة كما حدث في جنوب السودان أو تقنين الوضع الإنقسامي الحالي على شاكلة النموذج الليبي، وستتحمل ادارة ترامب النسخة الثانية من تقسيم السودان، وربما يكون ذلك توجه عام في السياسات الامريكية في السودان، وماذال السودانيين يحملون ادارة بايدن المسئولية في عدم منع إنقلاب 25 اكتوبر وحرب 15 ابريل، وبالتالي يجب التعامل مع التوجهات الامريكية بحذر شديد.
محددات الموقف الأمريكي لا ترتبط بالمصالح الامريكية المباشرة في السودان أو منع انتهاكات حقوق الانسان أو توصيل المساعدات الانسانية أو تشجيع تشكيل حكومة مدنية، وأصبح من المعلوم بالضرورة ان لا مصالح أمريكية حيوية في السودان وتراجع أمريكي كبير عن قيم الليبرالية والديمقراطية وتجميد المساعدات الانسانية والإزعان الي سردية أن القوى المدنية مشتتة وغير متفقة، ولكن الحقيقة فإن محددات الموقف الجديد يرتبط بإستقرار منطقة البحر الاحمر كمصلحة أمريكية مهمة عفطاً على ان تأثير الحرب على حلفائها يتزايد بشكل مضطرد، وعليه؛ فإن واشنطن تسعى الي الإستقرار في السودان ضمن مشروع الاستقرار الاقليمي والتعاون الاقتصادي وليس تعزيز التحول المدني الديمقراطي والسلام العادل الشامل.
لا جدال حول ان الأولوية وقف الاقتتال ووضع حداً لآلة الحرب كمدخل للعملية السياسية، وهذا لا يتاتي الإ بتقييم دقيق للمبادرات السابقة والبناء عليها لا سيما إتفاق جدة الذي وضع اساس المساعدات الانسانية وحماية المدنيين، ووثيقة والمناعة التي وضعت أساس وقف اطلاق النار والترتيبات الامنية والحل السلمي، ومؤتمر القاهرة الذي إطلق حوار سياسي خاطب الازمة السياسية ووضع أسس الحل السياسي عبر مؤتمر مائدة مستديرة، هذه المسارات الثلاثة يمكن البناء عليها وتطويرها في مؤتمر الرباعية المزمع بواشنطن في مشروع ينهي الحرب ويحقق السلام المستدام ويرسي ترتيبات الإنتقال المدني. وبالتالي فإن أي توجه على نهج خريطة الطريق التي قدمتها بورتسودان للامم المتحدة أو اللجوء الي الحلول المعلبة لتكريس حالة الانقسام والتفتت أو الاستمرار في إدارة الأزمة بدلاً عن حلها؛ سيعيد عقارب الساعة للوراء وقد يأزم الوضع أكثر في ظل إضطرابات إقليمية وتحولات متسارعة وإضاعة فرصة انهاء الحرب والوصول لسلام مستدام.

مقالات ذات صلة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

الأكثر شهرة

احدث التعليقات